تطرّق معلقون كثر، بينهم كاتب هذه السطور، إلى أبعاد اغتيال الشهيد نزار بنات. حاولنا في ما يخصنا وضع جريمة في سياقها الصحيح، إذ جاءت كنتيجة طبيعية لفلسفة السلطة الفلسطينية المبنية على «التنسيق الأمني». ناهيك بإمكانية وضع تلك الجريمة ضمن ردود السلطة الفلسطينية على منجزات معركة «سيف القدس» الأخيرة، التي شكلت تحديا لمسار أوسلو سيّئ الذكر، ولمفهوم «عملية السلام» الكاذبة برمّتها. فمنجزات المقاومة في معركة «سيف القدس» مثلت هزيمة لكلٍ من الاحتلال والسلطة الفلسطينية على حدّ سواء.
بناء على تلك الخلاصات، يرد في السياق تساؤلان مهمان: ماذا لو لم تتجاوب السلطة الفلسطينية مع المطالب الوطنية بحل ذاتها؟ وما هو مصير المصالحة الوطنية؟
إنّ ما انتهت إليه السلطة الفلسطينية من «تنسيق أمني مقدس» مع قوات الاحتلال -بما يتعارض وأبسط الثوابت الوطنية-، لا يأتي خارج السياق، بل مصيرٌ شبه حتميّ لأي سلطة حكم ذاتيّ تنشأ في ظل وجود احتلال، وذلك نتيجة للعلاقة الجدلية التي تقوم بين الاحتلال وسلطة الحكم الذاتي، حيث تُوجِد هذه العلاقة طبقة برجوازية حاكمة ترتبط اقتصاديا وعضويا بالاحتلال ذاته، فيصير بقاؤها مرهونا ببقائه، وبذلك تتحوَّل سلطة الحكم الذاتي تلقائيا إلى أحد الأدوات الرئيسة والفعالة ضمن استراتيجيات الاحتلال، من أجل قمع ذاك الشعب المحتل وحركات تحرره الوطنية، وهذا ما تدلل عليه التجارب التاريخية في الحالات المشابهة؛ لهذا ففرص تغيير السلطة الفلسطينية لنهجها تعدّ من شبه المستحيلات؛ إن لم تكن خارج الحسابات السياسية المنطقية بالمطلَق.
إذا ما أُخِذت هذه الحقيقة بعين الاعتبار، يسهل الخلوص إلى أن التعويل على حلّ السلطة الفلسطينية لنفسها من تلقاء ذاتها، يُعدّ على الأرجح أمرا غير وارد، كذلك يصير عدم تحقق الوحدة الوطنية بين حركتي «حماس» و«فتح» مفهوما ومبررا رغم مرور قرابة 15 عاما على الانقسام. ورغم كثرة المحاولات السابقة لإنهائه، فالحديث هنا عن مشروعين متضادين يلغي أحدهما الآخر، وينطبق عليهما «البرهان العقلي» في «استحالة الجمع بين الأضداد»، فهما لن يجتمعا إلا إذا غيَّر أحدُهما خَصائصَهُ، وهذا محمودٌ في حالة السلطة الفلسطينية، لكنه مستبعدٌ لما ذُكر سابقا، وممكنٌ في حالة حركة «حماس» بصفتها حركة مقاومة، لكنه سيكون مذموما من الناحية الوطنية، فإذا ما حصل واجتمع هذان المشروعان، فلن يكون هذا إلا ضمن احتمالين اثنين لا ثالث لهما: فإما أن أحدهما قد غير في خصائصه الجذرية، وإما أن يكون أحدهما قد هيمن على الآخر بشكل فعليّ، بما يجعل من خصائص هذا الأخير في حكم اللاغية.
وعليه، في الحالة الفلسطينية، يصير من الأجدى لفصائل المقاومة الفلسطينية صرف النظر عن مسارات المصالحة العقيمة السابقة، وذلك إذا ما كانت تنوي الالتزام بعقيدتها وبخطها المقاوم، والبحث عن مسار جديد، يمكن أن يفضي إلى مصالحة وطنية حقيقية واضحة المعالم، تكون مؤسسة على أهداف منسجِمة، تتَّسق مع الثوابت الوطنية دون تفريط.
ولقد منحتنا معركة «سيف القدس» مثالا عمليا لمسار واقعي، يمكن البناء عليه لتشكيل وحدة وطنية مضبوطة، فبالإضافة إلى كون معركة سيف القدس قد مثلت نقلة نوعية في مسار مكافحة الكيان الصهيوني، فقد طرحت أيضا صيغة «غرفة العمليات المشتركة»، التي شكلتها «كتائب الشهيد عز الدين القسام» في قطاع غزة، بناء على أهداف وطنية واضحة، وقادت من خلالها المواجهة الأخيرة بكل تفاصيلها بالتشاور والتشارك مع جميع فصائل «غرفة العمليات المشتركة» الأخرى، وقد شملت هذه الغرفة الفصائل الفلسطينية المسلحة قاطبة، بما فيها فصيلان مسلَّحان تابعان لحركة «فتح»، وحقَّقت بذلك معركة سيف القدس نصرا للشعب الفلسطيني بأكمله دون استثناء، ناهيك عن الإنجاز الذي تجاوز حدوده القُطْرية الفلسطينية، ليصب في طاحونة خط المقاومة والتحرير في عموم الإقليم.
ولعل من أهم منجزات «غرفة العمليات المشتركة»، الوحدة الوطنية التي تشكلت حولها في الشارع الفلسطيني، والتي شملت السواد الأعظم من أبناء الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948 وعام 1967، إضافة إلى فلسطينيي الشتات، وهذا ليس بالأمر الثانوي في الديناميكيات الصالحة لتأسيس وحدة وطنية، فهو يدلِّل على كون الإنجازات الميدانية في مواجهة الاحتلال مازالت العامل الأساس لدعم قيام وحدة صفّ فلسطينية حقيقية ونافعة.
نجد إذًا في التفاهمات الميدانية مسارا ناجعا للوصول إلى الوحدة الوطنية يمكن التأسيس عليها، ويمكن بعد ذلك تطويرها لإنشاء جبهة تحرير شاملة، فالميدان يَفرِز بين الوطني والمتخاذل إن لم نقُل العميل، ويُغلِّب أولوية المعركة على خلافات الحكم، وهذا هو المطلوب، حيث إن الفلسطينيين مازالوا يعيشون مرحلة التحرير، وبعد ذلك فليخوضوا في خلافات الحكم كما يشاؤون.
في مثل هذه الوحدة الوطنية، يكون لدى كل الفصائل في الساحة الفلسطينية خيار اللحاق برَكْب التحرير، وإلا تجاوزهم الزمن كما تجاوز غيرهم في تجارب شعوب أخرى خاضت معركة التحرير.
وأخيرا، من نافلة القول؛ إن المحازبين كأفراد هم أيضا مخيَّرون كما الفصائل التي ينتمون إليها، إما بين اللحاق برَكْب التحرير وإما بين الإصرار على الاستمرار في جريمة التخابر مع العدو المسماة زورا «التنسيق الأمني»، وحينها لا ملامة إن نُعِتوا بما يستحقون وعوملوا على أساسه.