الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن شهر رمضان خصه الله (تعالى) بخصائص كثيرة، منها أنه شهر نزول القرآن، قال (تعالى): "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ"، وهو شهر تكفير الذنوب والمغفرة، قال (صلى الله عليه وسلم): "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن ما اجتنبت الكبائر".
وهو شهر تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ يَقُولُ: «جَاءَكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكَ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، يُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ».
ولما كان تحصيل الأجور الكثيرة بقراءة القرآن إذ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ ألم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ"، فكان جبريل يعرض القرآن على النبي (صلى الله عليه وسلم) في كل عام في رمضان، وفي العام الذي مات فيه عرضه مرتين، روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «كَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) القُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً، فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي العَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، وَكَانَ يَعْتَكِفُ كُلَّ عَامٍ عَشْرًا، فَاعْتَكَفَ عِشْرِينَ فِي العَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ»؛ حرص السلف الصالح (رضوان الله عليهم) على تكثيف قراءة القرآن في هذا الشهر الفضيل.
كان الإمام مالك يترك مجلس الحديث ومجالسة أهل العلم في رمضان، ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك العباد جميعًا وأقبل على قراءة القرآن.
ومما يلحظ في سير السلف الصالح أنهم كانوا يضاعفون قراءتهم للقرآن الكريم في شهر رمضان المبارك، فكان الإمام الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة، وفي كل شهر ثلاثين ختمة، وكان قتادة بن دعامة السدوسي يختم القرآن في كل سبعة أيام، فإذا جاء رمضان ختمه في كل ثلاثة أيام، فإذا دخل العشر الأواخر من رمضان ختمه في كل ليلة.
وكان الأسود بن يزيد يختم القرآن في كل ست ليال، وفي رمضان في كل ليلتين، وينام بين المغرب والعشاء.
وكان وكيع بن الجراح يقرأ في رمضان في الليل ختمة وثلثًا، وكان البخاري يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، وبعد التراويح يقوم فيختمه في كل ثلاث ليال، وكان سعيد بن جبير يختم القرآن في كل ليلتين.
وقد علق ابن رجب الحنبلي على فعل السلف بقوله: "إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما الأوقات المفضلة كشهر رمضان، خصوصًا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها؛ فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً للزمان والمكان"، وهكذا قول أحمد وإسحاق وغيرهما.
فلنكثف _إخواني الأحباب_ قراءتنا للقرآن وفهمه، ولنستغل هذا الشهر الفضيل، ولنختم القرآن مرارًا فيه، مع حذارِ من الرياء والتفاخر بذلك؛ فإنهما يفسدان العمل.
أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، والحمد لله رب العالمين.