إليها تهفو قلوبنا، وتشرد أفكارنا، نشتاق إلى سجدة على ثراها، هي حبيبة القلب، وأنيسة الروح، ارتبطت أرواحنا بها، ورثناها حبًّا، ورمزًا للعزة والكرامة، وعشقها سكن القلوب.
يا قدس، نتمنى زيارة إليك في شهر الخير، نشبع فيها عيوننا وأرواحنا، وندعو أن يكون ذلك قريبًا.
للقدس عادات وتقاليد قديمة قدم وجود الإسلام فيها، طقوس يتوارثها أهل المدينة ويحرصون على اتباعها بتفاصيلها حتى غدت جزءًا لا يتجزأ من شهر الصيام، يفيض منها عبق التاريخ، وعطر الماضي، وبها يؤكد المقدسيون هويتهم والهوية الإسلامية للمدينة، رغمًا عن أنف الاحتلال الذي يبذل جهودًا جبارة لتهويدها، وإظهارها بطابع المدينة الصهيونية عاصمة الدولة اللقيطة (إسرائيل).
ولوجود ثالث الحرمين الشريفين فيها الذي يكون عادة مركزًا ومنطلقًا للعبادات والنشاطات في القدس تُشد الرحال إليها بكثافة طوال أيام وليالي الشهر الكريم، وهناك من يعتكفون في المسجد الأقصى طوال شهر رمضان، أو في العشرة الأواخر منه، ولا يغادرونه إلا ليلة العيد، وهم من تستعد المدينة إلى استقبالهم جيدًا والسهر على راحتهم وأمنهم.
تبدأ التحضيرات لاستقبال رمضان في الأيام الأخيرة من شهر شعبان، وفي تحدٍّ ظاهر للاحتلال تبدأ اللجان الشعبية للأحياء والحارات والبلدات المقدسية بتنظيف الشوارع والمداخل المؤدية إلى المسجد الأقصى، ثم ينتقلون إلى تزيين كل ركن في المدينة بحبال الزينة الملونة وفوانيس رمضان، وكتابة عبارات الترحيب بالشهر الكريم وزوار المدينة بالأنوار الملونة، وتجتهد تلك اللجان في توفير الراحة والسلامة لزوار المدينة بتوزيع مياه وتوفير مظلات.
وبمجرد ثبوت ولادة هلال رمضان تهب الفرق الإنشادية والكشفية المقدسية للاحتفال بالقادم الجديد المحبب إلى القلوب، وذلك بتنظيم مسيرة باللباس الفلسطيني التقليدي، فتجوب الفرق شوارع البلدة القديمة منشدة المدائح النبوية، والأغاني الرمضانية، يضربون بالدفوف ويدخلون السرور على قلوب الناس.
وقبل رمضان بأيام تتزين المحال التجارية، وتشهد أسواق البلدة القديمة في القدس (سوق خان الزيت، وسوق اللحامين، وسوق القطانين، وسوق العطارين، وسوق الدّباغة، وسوق الواد) استعدادات مكثفة لاستقبال الشهر الكريم، وذلك بعرض بضائعها المختلفة، من المواد الغذائية والبهارات، و"المكابيس" والمخللات، والحلاوة المقدسية، والفواكه المجففة، والحلويات الرمضانية، خاصة القطائف، وفوانيس رمضان، وألعاب الأطفال، وتشهد الأسواق عادة حركة تجارية نشطة، مع تضييق الاحتلال وإغلاقه كثيرًا من المداخل ومنع الناس من عبورها، وافتعال المستوطنين الذي يستولون على البيوت في القدس المشاكل والاحتكاكات.
للمسحراتي دور لا يُنسى في رمضان، فقد جرى العرف منذ القدم بأن يوقظ المسحراتي الناس في ليالي رمضان لتناول وجبة السحور، ويحمل طبلة يدق عليها يوقظهم قبل صلاة الفجر، وعادة ما يكون الطبل مصحوبًا ببعض الأناشيد الدينية والشعبية والرمضانية، ومنها "اصحى يا نايم وحد الدايم"، و"قوموا لسحوركم إجا رمضان يزوركم"، ويرتدي المسحراتي عادة ملابس خاصة ويؤدي بعض العروض الفنية.
في المسجد الأقصى تُنظم الإفطارات الرمضانية لضيوف المسجد، إذ يُقدم التمر والماء ووجبات الطعام والخبز لكل من يوجد في المسجد، وتوزع لجان من المتطوعين أيضًا العصائر والشوربات الساخنة على الصائمين، إضافة إلى الشاي والقهوة.
وما إن يقترب أذان العشاء حتى تصطف الصفوف في ساحات ومساجد الحرم القدسي، استعدادًا لأداء صلاة التراويح التي يتناوب على الإمامة فيها مجموعة من الشيوخ والأئمة وحفظة القرآن الكريم، جميلي الأصوات، والحائزين إجازات في تجويد القرآن وقراءاته.
ولا نستطيع مغادرة الحديث عن رمضان في القدس دون ذكر مدفع رمضان، الذي يقع في مقبرة باب الساهرة الإسلامية بشارع صلاح الدين، ويضرب إيذانًا ببدء الشهر الفضيل، ويتكرر ضربه مرتين يوميًّا لإعلان الإمساك والإفطار، وتتوارث عائلة صندوقة المقدسية الإشراف على ضرب المدفع والعناية به.