قد تبدأ فكرة التحرير كحلم يراود السياسيين أو القادة، ثم ما تلبث أن تتحول إلى برامج عمل شاملة لكل أشكال الإعداد لتحقيق ذلك الحلم. فالتحرير يتطلب مسارًا وطنيًّا يشمل كل شرائح وفئات المجتمع. فنحن أمام عدو قوي ومحتل ظالم قد سخر كل الموارد للتأثير في الدول ومراكز الاقتصاد والمال من أجل أن يزور في التاريخ والجغرافيا، ليضمن بقاءه أطول مدة ممكنة. وإن طول تلك المدة أو قصرها يعتمد بالأساس على جهدنا في كسر روابط دعمه، وإضعاف بنيته الداخلية.
ولعل أعظم ما يميز الشعب الفلسطيني منذ أكثر من سبعة عقود هو أنه رفض الاحتلال الإسرائيلي ولا يزال يقاومه، فأصبح رمزًا عالميًّا للثورة ضد الاحتلال، وأسطورة في الصمود والمقاومة. حتى أنه في الانتفاضة الأولى 1987-1993 قاوم الاحتلال بحجارة الشوارع عندما لم يجد غيرها، فحفر في تاريخ البشرية "انتفاضة الحجارة" وثبت في شواهد البشرية أسماء وألقاب لا تُنسى. ويوم أن استطاع أن يصنع سلاحه؛ أطلق صواريخ تصل إلى 250 كم في عمق العدو. وبين هذا وذلك -بل وقبله- عُرف الفلسطيني بثورته الشاملة، في إعداد الإنسان بدنيًّا وفكريًّا، جيلًا بعد جيل.
إن مخيمات طلائع التحرير في نسختها الجديدة "سيف القدس" تعد تعزيزًا لنهج المقاومة في التعبئة الشعبية لمقاومة الاحتلال، وإعدادًا عسكريًّا وفكريًّا لحاضنتها التي شهدت على صدقها وبطولتها. فالمخيمات اليوم أفضل في الإعداد والتجهيز وأكثر في الأعداد والإقبال من قبل كل الفئات العمرية مما كانت عليه في نسختها الأولى عام 2014. وهذا بالتأكيد يترافق مع تطور وسائل وأدوات المقاومة نفسها، فقد سخرت تقنيات المحاكاة في التدريب وفق سيناريوهات تصل بالمتدربين إلى دخول ساحات المسجد الأقصى محررين، في إطار تعزيز الإيمان بحتمية الانتصار وزوال الاحتلال.
إن عشرات الآلاف من الأطفال والشباب والكهول بل والشيوخ، الذين التحقوا بمخيمات طلائع التحرير يعكسون الإقبال الشديد على فكرة المقاومة ومشروعها لتحرير فلسطين. فهؤلاء جميعًا عايشوا معركة سيف القدس التي شكلت حالة انتصار كبير على العدو الإسرائيلي، واستطاعت أن تعيد الفلسطيني بقوة إلى تراث الآباء والأجداد الذين ضحوا بأغلى ما يملكوا على طريق التحرير، ولا يزال حلمهم يتراءى لهؤلاء الأبناء والأحفاد.
إنك تتجول في مخيمات التدريب التي أعدتها المقاومة لتناسب كل فئة عمرية على حدة، فتشاهد من بين المشاركين أبناء شهداء وأسرى ومن الجرحى ومن الذين دمرت بيوتهم وفقدوا موارد رزقهم، وجميعهم عايشوا همجية القصف الإسرائيلي للبيوت والبنايات السكنية والمنشآت المدنية. هؤلاء عايشوا المأساة بأنفسهم، ولكنهم أيضًا رأوا بأعينهم كيف استطاعت المقاومة أن تكسر إرادة العدو، فتقصف مرافقه الحيوية بالصواريخ، وتدك عاصمته المزعومة بأكثر من 130 صاروخًا دفعة واحدة، وتطور طائرات مسيرة استطاعت أن تصل إلى مرافق العدو في البر والبحر.
إن نجاح المقاومة الفلسطينية في تطوير قدراتها العسكرية والأمنية وتحقيقها لانتصار صريح في معركة سيف القدس، لا تخطئه العيون ولا تغفل عنه العقول، قد شكل بؤرة استقطاب لمشروع المقاومة ومركز تنوير لأحلام الأجيال بالتحرير وحتميته. فالكل يرى أنه كان جزءًا من المعركة، وأصبح أكثر رغبة وإيمانًا بأن يكون جزءًا من النصر.
في زيارة مخيمات طلائع التحرير، وبينما أحدث صديقي في وصف هؤلاء الفتية فقلت هؤلاء هم الفاتحون؛ لكنني سرعان ما استدركت فقلت هم أبناء الفاتحين! فالتحرير أصبح أقرب من أي وقت، وإن هؤلاء سيكونون هم جنود الدولة الفلسطينية المستقلة، وهم رجالها وقادتها. هؤلاء الذين سيحولون القرى المحررة إلى مدن صناعية ومراكز حضارة وعمارة، ويغيرون سنوات الاحتلال إلى قرون من الحرية، ويحافظون لهذه الأمة على طهارة قدسها ومقدساتها.
شكرًا للمقاومة التي أعادت لأمتنا أملًا بقرب التحرير وأحيت عزيمة وطنية بحتمية الانتصار؛ يرونه بعيدًا ونراه قريبًا.