خلال التفاعلات الميدانية والنقاشات الافتراضية لاغتيال الناشط الوطني نزار بنات ظهرت تساؤلات عدة حول فساد السلطة ورجالاتها، وتزاحمت القصص والمواقف حول الفساد بكل أشكاله السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وتجمعت أسماء ومسميات، وتعددت شخصيات ولجان تحقيق، وترافق مع ذلك نقاش حول علاقة الاحتلال بالسلطة وفسادها، فلا أحد يمكنه تجاهل أن الاحتلال هو الحاضر الذي لا يغيب في معادلات المشهد الفلسطيني. فالاحتلال يمتلك أدوات ويوظف موارد تعمل ليل نهار من أجل إضعاف العمل الوطني، وتشتيت أي تجمع يعمل على مقاومته، ويستخدم كل الأساليب -المباشرة وغير المباشرة- لتحقيق ذلك.
ورغم أن جريمة اغتيال نزار بنات قد تمت بأيدي أجهزة السلطة وبقرار مباشر من قادتها، وبحماية من حكومتها، فإن القتلة قد خدموا الاحتلال بتغييب صوت وطني يظهر فساد السلطة السياسي وتعاونها مع الاحتلال ضد المصالح الفلسطينية. ففضائح التنسيق الأمني لا تنتهي، وفضيحة لقاحات كورونا منتهية الصلاحية لا تزال تتفاعل، ومن قبلها فضيحة بيع الاسمنت لبناء الجدار العازل في عام 2004، وتعيينات خاصة لـ71 من أقارب كبار السلطة في مراكز مرموقة في السفارات والوزارات والأجهزة الأمنية بمرتبات "سوبر ديلوكس" كشفها تحقيق بعنوان "عظام الرقبة" عام 2021. وقد شمل التحقيق أسماء من عائلات رئيس السلطة محمود عباس، ومستشار الرئيس محمود الهباش، ومدير المخابرات ماجد فرج، والسفير كفاح عودة في إسبانيا، وآخرين. ورغم أن قائمة الفساد والفاسدين تطول، فإن استحضار العديد من المحاولات الفاشلة في الإصلاح الداخلي تجعل من فكرة إصلاح السلطة من الداخل هي محاولة إضافية لكسب الوقت لصالح تمرير أي قضية ونسيانها.
إن مقاومة الاحتلال في القدس والاستيطان في الضفة الغربية، يحتاج إلى قيادة وطنية وحكومة فلسطينية تحمي المقدسيين في الشيخ جراح وحي البستان وحي سلوان، كما تحمي الثائرين ضد الاستيطان في نابلس ورام الله والخليل. وعليها واجب حفظ حقوق أبناء الشهداء ومستحقات الأسرى وعلاج الجرحى، لا أن تمنع مخصصاتهم لأسباب سياسية، وكأن الموارد الفلسطينية هي لحزب السلطة دون غيره!
فهل كان صمت البعض عن فساد السلطة تغليبًا للمصلحة الوطنية وكأن الاحتلال والفساد مختلفان؟! كيف يمكن الفصل بين توفير الحماية للمستوطنين وضباط المخابرات -الذين ضلوا طريقهم- في قرى ومدن الضفة، في الوقت الذي تغيب السلطة في لحظات اقتحام الاحتلال لتلك المدن والقرى فيقتل من يشاء ويعتقل من يشاء!
كيف يمكن الفصل بين مقاومة بناء الاحتلال لجدار الفصل العنصري ومحاربة المتورطين في توريد السلطة الأسمنت للمستوطنات؟ بل كيف يمكن الفصل بين قمع الاحتلال للثوار في جبل صبيح بنابلس وقمع السلطة للمطالبين بمحاسبة الفاسدين وقتلة نزار بنات!؟
كيف يمكن أن يستمر الصمت على فساد السلطة بقطع أي مسار ديمقراطي للإصلاح، واستمرار تعطيل الانتخابات لمنع بناء نظام رقابة ومحاسبة وطنية؟ بل كيف يمكن أن نواجه الاحتلال واستيطانه في ظل سلطة ملتزمة خدمتَه أمنيًّا واقتصاديًّا؟!
لقد أعادت الاحتجاجات ضد جريمة قتل نزار صورة الفلسطيني الذي لا يستسلم لحكم من يقبل أن يعيش بذل الاحتلال وتحت بساطيره. ورغم القمع الوحشي لأجهزة السلطة وحركة فتح؛ فإن الثورة ضد الفساد تبدأ ولا تنتهي، فلا تعارض بين محاربة الفساد ومقاومة الاحتلال، بل هما مساران متوازيان نحو الحرية والاستقلال، يؤسسان لبناء دولة لا يحكمها الفاسدون ولا يتحكم بها المحتلون.
إن جريمة قتل نزار قد أحيت في شعبنا قيمًا ومبادئ وطنية دونها الموت بكرامة وتستحق أن نضحي جميعًا في سبيلها من أجل مستقبل لأبنائنا، لينعموا بوطن لا سلطة لاحتلال عليه ولا فساد سلطة تتحكم فيه.