يبدو أن معركة سيف القدس التي خاضتها المقاومة الفلسطينية مع الاحتلال، لم تتوقف انعكاساتها على ميزان القوة مع الاحتلال وحسب، ولكنها شملت أيضًا خارطة العلاقات الفلسطينية ومستقبل التوجه الوطني الفلسطيني، وهي تركيبة ضرورية لإدارة صراع متكامل مع (إسرائيل).
فقد أكدت مصادر فلسطينية أن حماس قدمت في حوار القاهرة الذي دعت إليه مصر رؤيتها للمرحلة القادمة، والتي تركز على تشكيل مجلس وطني جديد بهدف التوافق على برنامج سياسي، على أن تتشكل فورًا قيادة وطنية مؤقتة تدير الشأن الفلسطيني كله، وتتولى مسؤوليته حتى الانتهاء من تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني والهيئات المنبثقة عنه.
ترتيب البيت وانتزاع الحقوق
وقد كان رئيس حركة حماس في غزة يحيى السنوار واضحًا وحاسمًا، عندما تحدث مع أكاديميين ومفكرين في عشية وقف إطلاق النار، حينما قال إن "كل ما كان يُطرح قبل 21 أيار (نهاية الحرب على غزة) لم يعد صالحًا، موضحًا أنه "يوجد استحقاق فلسطيني لإعادة ترتيب البيت الداخلي، وإعادة هيكلة منظمة التحرير، ولا يوجد فرصة لأي أحد للهروب من هذا الاستحقاق، وقلنا لكل الوسطاء قبل المعركة إنه يجب أن يدركوا، وتدرك قيادة فتح والمنظمة، أن منظمة التحرير دون (حماس) و(الجهاد الإسلامي) وباقي الفصائل هي بمثابة صالون سياسي فقط ليس له قيمة"!
وفي تأكيد على تعديل وتغيير المسار السابق الذي أفشله عباس بتأجيل الانتخابات، قال زعيم حماس "إن الحديث عن حكومات واجتماعات هدفها استهلاك المرحلة وحرق الوقت ليس مجديًا، ولن يكون مقبولًا لدينا.
وأكد أن الاستحقاق الوطني الحقيقي الفوري يجب أن يكون من خلال ترتيب المجلس الوطني الفلسطيني على أسس صحيحة، ليشمل القوى والفصائل المؤثرة كافة"، لنضع "استراتيجيتنا الوطنية حول كيف سندير الصراع".
وحدد السنوار الخطوة الضرورية التي يجب أن تتبع وتتكامل مع إعادة تشكيل المجلس الوطني، بالقول: "يمكن أن نجعل الاحتلال تحت ضغط العالم من أجل الانسحاب من القدس والضفة، ووقف الاستيطان، وإعادة اللاجئين" فيما أسماه "انتزاع الحد الأدنى لحقوقنا" مع "عزل الاحتلال وإنهاء حالة اندماجه في المنطقة والعالم كله".
وهذا المسار الجديد الذي تقدمه حماس يختلف بالتأكيد عن مسار الانتخابات الذي اضطرت إليه سابقًا، والذي ثبت عمليًا أنه لم ينجح في الوصول إلى أهداف وطنية جامعة ولا التصدي لمخططات الاحتلال فضلًا عن أن يحقق الوحدة الوطنية.
لا لحرف بوصلة النضال
وقد اصطدمت رؤية حماس بمطالبة الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالبدء فورًا بتشكيل حكومة وطنية فلسطينية تحوز الاعتماد الدولي وتتولى الإشراف على عملية الإعمار في غزة، الأمر الذي يعني موافقة هذه الحكومة على شروط الرباعية الدولية وهو ما ترفضه القوى الفلسطينية وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامي.
ومن الطبيعي أن ترفض حماس هذا المطلب في حوار القاهرة، وتتمسك برؤيتها التي توافق عليها الفصائل الفلسطينية بمجملها، حيث سبق للجبهتين الشعبية والديمقراطية أن طالبتا بذلك في جولات الحوار السابقة.
إن سعي عباس لتشكيل حكومة يهدف إلى القفز على الإنجازات التي تحققت في "سيف القدس" بعدما وحدت كفاح الفلسطينيين وأوجدت مسارًا قادرًا على ردع العدو ومنعه من الاستمرار في سياساته الاستيطانية العدوانية، وأخرجت الشعب الفلسطيني من حالة الدفاع إلى الهجوم وتحقيق الأهداف في مرمى الاحتلال.
كما تهدف الحكومة المطلوبة إلى إعادة الاعتبار لمسار أوسلو والمفاوضات وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء باتجاه مسار فشل في تحقيق أدنى مطالب الشعب الفلسطيني وحقوقه، وكذلك الحفاظ على سلطة فاشلة متآكلة ربطت نفسها بالاحتلال وعملت على خدمته ضد مصالح الشعب الفلسطيني ومقاومته.
إن محاولات عباس وسلطته المرتبطة بالاحتلال لاستمرار حرف بوصلة النضال الفلسطيني، لن تجد لها فرصة للنجاح هذه المرة في ضوء المعادلة الجديدة التي فرضتها المعركة الأخيرة، والتي جعلت اليد العليا للمقاومة ورفعت من شأن الأهداف الوطنية العليا المتمثلة في السعي إلى دحر الاحتلال ولو مرحليًا عن الضفة وغزة والقدس باعتماد المقاومة المتفق عليها وطنيًا، ووضع برامج عملية في هذا الاتجاه يشترك فيها الفلسطينيون في الضفة والقدس وغزة بما يثير تفاعل فلسطينيي 48 كعامل داعم ومساند، ويرفع من مستوى انتمائهم الوطني في مواجهة الأسرلة.
لقد فشلت السلطة في مجاراة تطلعات الفلسطينيين أو حتى التضامن معهم في معركتهم الشرسة مع الاحتلال خلال 11 يومًا من المعركة، وهذا ما دعا عددًا من الأكاديميين والمثقفين الفلسطينيين إلى المطالبة بإقالة رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، من جميع مناصبه الرسمية والحركية، وانتخاب قيادة بديلة للشعب الفلسطيني.
الأولوية الفلسطينية القادمة
من الواضح أن القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة تريد احتواء نتائج معركة القدس وتطويعها لخدمة برنامج التسوية والسلطة الفلسطينية القائمة عليه، وذلك من خلال توظيف الدول العربية وعلى الأخص مصر للقيام بهذا الدور.
ومن اللافت أن نجاح المقاومة في جولة المواجهة مع الاحتلال دفعت بالرئيس الأمريكي جو بايدن إلى رفع الصراع العربي الإسرائيلي إلى مقدمة اهتماماته بعد أن كانت في ذيلها، خصوصًا أن المقاومة تمكنت من زعزعة أمن الكيان وهز استقراره الداخلي، وأحبطت خطوات التطبيع العربية، وحركت مكامن الغضب والثورة في المنطقة العربية بما يشكل تهديدًا لدور الولايات المتحدة في المنطقة.
ولذلك سعى بايدن مع الكيان إلى ترتيب وقف للنار وربط إعمار غزة بتثبيته، على أن تتولى السلطة الفلسطينية إدارة الإعمار في محاولة لنفخ الروح في جسدها الميت، وإعادة الاعتبار إلى مسار التسوية الفاشل، مقابل أن تتولى سلطة التنسيق الأمني الاستمرار في إحباط أي تحركات للفلسطينيين قد تفضي إلى انتفاضة جديدة في الضفة أو تصعيد المقاومة فيها.
ولكن المقاومة كانت واعية لما يجري، إذ أكدت أن الجولة الأخيرة من المواجهة مع الاحتلال كانت من أجل حماية القدس وسكّانها ومقدّساتها، وأن الهدنة يجب أن تكون شاملة وتضع حدًا للعدوان على القدس، وأصرت على رفض ربط مفاوضات تثبيت وقف إطلاق النار بالمسارات الأخرى، بما في ذلك مفاوضات تبادل الأسرى، أو بأي طرف آخر بما في ذلك الحكومة التي يريدها عباس.
تكامل بين المقاومة والقيادة
إن المسار الذي قدمته المقاومة لمعالجة الملفّ الفلسطيني الداخلي، وبأنها لا تتمّ إلّا من خلال إعادة بناء "منظّمة التحرير" وضع القضية الفلسطينية على سكتها الصحيحة، بإيجاد تكامل مفقود بين المقاومة وإدارة الشعب الفلسطيني، وأطاح بكل مناورات السلطة ومن خلفها لإحياء برنامج التسوية محميًا بالتنسيق الأمني.
وحتى في حال لم تنجح جهود إعادة بناء منظمة التحرير، فيمكن الذهاب إلى اتفاق وطني واسع لمن يقبل المشاركة به وتشكيل إطار آخر يرتضيه الفلسطينيون وتدافع عنه المقاومة التي ستقود المرحلة القادمة.
ولا يبدو أن محاولات عباس مدعومًا بقوى عربية ودولية لإجهاض مكتسبات معركة القدس ستنجح، بل إن استمرار دور هذه السلطة بات مشكوكًا فيه في ظل الأجواء التي خلقتها المعركة الأخيرة حول القدس.
فقد باتت المقاومة تمتلك زمام المبادرة، وتقدم برنامجًا وطنيًا حقيقيًا للصمود ومقاومة الاحتلال ومراكمة الإنجازات باتجاه رفع كلفة الاحتلال، ووقف عمليات المصادرة وتهويد القدس في الأرض المحتلة، ودفع الصراع مع الكيان لمستوى جديد يؤدي إلى خلخلته من الداخل وإضعاف إرادته ومقومات صموده.
ويشكل ذلك خطوة أساسية مهمة لإدارة صراع متوازن مع كيان تعتريه نقاط ضعف كثيرة يمكن للمقاومة أن تبني عليها لدحره في النهاية.