على مدى سبعة عقود والقضية الفلسطينية يعرفها العالم على أنها حالة صراع بين العرب واليهود أو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومهما اختلفت التوصيفات إلا أن الجميع كان يرى أن القدس هي رمز القضية الفلسطينية. لكن البعض خلال ذلك -وتحديدًا فترة أوسلو- حاول تعريفها على أنها قضية "دولة فلسطينية" تحتلها "دولة إسرائيلية"، في تشويه صارخ لطبيعة الصراع. فالقضية الفلسطينية هي قضية شعب تحت الاحتلال وهذا ما تؤكده كل القرارات الدولية، وما تشهد عليه أحداث التاريخ منذ الاحتلال البريطاني.
وتعتبر الأونروا UNRWA "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى" أحد أهم الشهود الدوليين على الحالة السياسية للقضية الفلسطينية، فهي مؤسسة دولية تأسست عام 1949 بموجب قرار أممي رقم 302، وبحسب الأونروا فإن "اللاجئين الفلسطيني هم أولئك الأشخاص الذين كانت فلسطين هي مكان إقامتهم الطبيعي خلال الفترة الواقعة بين يوليو/حزيران 1946 ومايو/أيار 1948، والذين فقدوا منازلهم ومورد رزقهم نتيجة الصراع العربي الإسرائيلي عام 1948".
وعلى مدار عقود الصراع كانت القدس هي المركز الذي يشد كل الأطراف والمحور الذي تدور حوله كل التعقيدات، فحتى أوسلو التي شكلت أسوأ نموذج للتنازل عن الحق الفلسطيني وعن السيادة الوطنية على 78% من الأرض لصالح الاحتلال؛ لم تستطِع أن تقنع أي فلسطيني بأي حلول تشمل التنازل عن القدس أو الأقصى. وحتى وثيقة عباس-بيلين التي اتفق فيها محمود عباس مع يوسي بيلين عام 1995 على اعتبار حي أبو ديس بالقدس هو العاصمة لدولة أوسلو، لم يستطِع حتى شمعون بيريس "حزب العمل" أن يتعامل معها وهو رئيس للوزراء خلفًا لإسحاق رابين، لعلمه أن ذلك لا يمكن تمريره في الكنيست أو حتى داخل الحكومة التي كانت أقل يمينية مما هي عليه الآن، فهم يريدون كل القدس لليهود، وبالأخص المسجد الأقصى وما حوله، فأحلامهم لا تتحقق دون بناء هيكلهم المزعوم على أنقاض الأقصى!
لقد كانت القدس عنوانًا لكل المراحل في الثورة الفلسطينية، ولعل انتفاضة القدس عام 2000 كانت العنوان الأشهر في القرن الماضي، واليوم تمثل معركة سيف القدس وما سبقها ولحقها من أحداث عنوانًا واضحًا في الثورة الفلسطينية نصرة للأقصى والقدس. وإن حالة الاستقطاب الثوري الذي تمثله القدس يعكس قوتها في الوعي الفلسطيني ويجعلها مركزًا قوميًا يستطيع أن يجمع العرب والمسلمين حول القضية الفلسطينية، كما أنها المدينة الوحيدة التي منحها العالم صفة خاصة عبر ستين قرارًا أمميًا، ولم يقبلوا بكل محاولات الاحتلال لتزوير تاريخها وتراثها العربي والإسلامي.
إننا اليوم أمام لحظة تاريخية تؤسس لمسار متواصل من الثورة الشعبية التي تشتعل في جبهات الوطن الأربع: القدس والضفة وغزة والداخل المحتل. وأيًا كان شكل الحكومة الإسرائيلية فهي حكومة احتلال تتبنى سياسات عنصرية واستيطانية متطرفة ضد العرب والفلسطينيين. فمسيرة الأعلام الصهيونية ليست حدثًا عابرًا بقدر ما هو رمز إسرائيلي لتهويد القدس، وسلوك احتلالي عنصري لمصادرة الحق الديني والسياسي للمسلمين في باب العمود والأقصى. إنها بالنسبة لليهود مناسبة سنوية، وبالنسبة لنا تهديد لا يمكن تمريره، وتجب مواجهته من أجل حماية حقوقنا الوطنية ومستقبلنا السياسي.
لقد استطاعت القدس أن تعيدنا جميعًا إلى أصل الصراع، وتطرح علينا الأسئلة الصعبة عن المستقبل، والحلول الممكنة لقضية لا تنتهي إلا بإنهاء الاحتلال للأرض العربية وإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة وعاصمتها القدس، تلك القدس التي نعرفها ويعرفها التاريخ، القدس التي ضحى من أجلها الشهداء والجرحى والأسرى، العاصمة التي عاش على حلمها القادة والأدباء والعلماء، الصورة الأجمل التي يرسمها الأطفال على جدران قراهم وكراسات مدارسهم، الأيقونة التي تغنى بها الشعراء وعزفت ألحانها أصوات الثوار، وصدحت بها هتافات لا تزال تتردد في عواصم العالم.