في كل معركة تقودها "المقاومة الفلسطينية" لمواجهة العدوان الإسرائيلي، تندفع قيادة السلطة اندفاعًا لافتًا نحو الاستفادة من (ثمرات) هذه المعركة على صعيد تعزيز دورها السياسي، وتمكين وضعها المالي، وحل أزماتها الداخلية، والخارجية، بعيدا عن الطرف الفاعل في هذه المعركة.
وقد ظهرت تجليات ذلك بصورة أكثر وضوحا بعد انتهاء معركة سيف القدس، حينما وجدت هذه السلطة أن "الفرصة بدت سانحة" لإنهاء عزلتها السياسية في مستوياتها الإقليمية، والدولية، وإنعاش ميزانياتها الخاصة في ظل انخفاض الدعم الدولي.
فكانت عمليات المقاومة حافزا وفرصة لترميم العلاقات بين الإدارة الأمريكية وقيادة السلطة، التي عانت اضطرابًا غير مسبوق، بل وقطيعة صعبة أضرّت بهذه السلطة، التي كانت عاجزة عن لعب أي دور سياسي مهم، في ظل فقدانها أي أوراق قوة يمكن أن تلفت انتباه الإدارة الأمريكية إليها.
لذلك شهدنا هذه (النشوة الغريبة) لدى قيادة السلطة بعد الاتصالات التي جرت من قبل الإدارة الأمريكية لتهدئة الأوضاع وقت اندلاع هذه المعركة، على الرغم من إدراك الإدارة الأمريكية أن السلطة فاقدة للشرعية السياسية، ولا يمكنها إجراء انتخابات تجدد بها شرعيتها، وعاجزة عن لعب دور فاعل لإقناع قيادة المقاومة بوقف إطلاق الصواريخ، ولا تملك أي مبادرة حقيقية يمكن أن تؤدي لإنهاء الصراع، ولا تحظى بأي إجماع أو احترام لدى الجمهور الفلسطيني.
في ظل "التفاف جماهيري" كبير خلف قيادة المقاومة في غزة والضفة، والـ 48 ، بل والعالم العربي والإسلامي، الذي ظهر جليًّا بصور مختلفة من أشكال الإسناد والتضامن، في حين تلقت قيادة السلطة أكبر موجة في تاريخها من (الهجوم الشعبي) عبر تحميلها المسؤولية، وإلقاء اللوم عليها، بل وتخطى الأمر للهتاف والشتم ضد قياداتها حتى في أكثر الأماكن قدسية.
وذلك لقناعة الجمهور بأن هذه السلطة أصبحت "حملا ثقيلا" على الفلسطينيين، وأحد العوائق في وجه مساعيهم نحو التحرير، لأنها تعمل بشكل واضح وفعلي ضد مقاومته التي تشكل الأمل لشعبنا في الانعتاق من الاحتلال، ولا يمكن تقييمها في موقف أحسن من ذلك، فقد كانت شاهد زور على ما يحدث من عدوان إسرائيلي.
على الرغم من أن الفرصة كانت سانحة لتنضم إلى مشروع شعبنا التحرري، وتتضامن مع مقاومته وتشكل له إسنادًا سياسيًا وميدانيًا، لكن ما حدث كان العكس فكل تحركاتها كانت هادفة نحو تعزيز دورها على حساب مقاومة شعبنا وتضحياته، دون أن تراجع مواقفها التي خيبت آمال شعبنا.
ولا يمكن تقييم كل التصريحات التي انطلقت من أروقتها بأنها تعكس الحرص أو المسؤولية الوطنية؛ لأنها لو كانت جادة في ذلك لاتخذت إجراءات فورية على الأرض منها؛1- دعوة السفارات الفلسطينية للتحرك وحشد الدعم السياسي والإعلامي لفعل المقاومة، 2- إنهاء التنسيق الأمني وليس وقفه أو تخفيضه، 3- الانخراط الفعلي في المقاومة من قبل الأجهزة التابعة لها، 4- وقف التضييق والملاحقة في الضفة، إلغاء كل الإجراءات العقابية بحق غزة.
لكن أيًّا من ذلك لم يحدث نهائيا لأنها تنظر لفعل المقاومة بأنه فعل يهدد مشروعها السياسي، ولم تتشكل لديها أي قناعة بأن مقدرات المقاومة يمكن أن تشكل رافعة للمشروع الوطني، لقناعتها بأنه لا جدوى من الفعل العسكري في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ولإيمانها العميق بأن الحق الفلسطيني يمكن استرداده فقط من خلال المفاوضات وتعزيز جهود السلام.
وعليه فإن المعركة الأخيرة لم تؤدِ إلى إحداث تغيير في قناعات هذه السلطة، وفي توجهاتها وبرنامجها السياسي، إنما كانت (كصيد ثمين) يمكن استثماره ليس لفرض معادلة جديدة في تاريخ الصراع بل "لجني الكثير من المال" لملء جيوب قيادات السلطة وإنعاش الخزينة، والعودة للعب دور سياسي مهم تحت المظلة الأمريكية للدخول في جولة أخرى من التيه السياسي على حساب حقوقنا وتضحياتنا.
لذلك تدور في "الخفاء والعلن" معركتان بالتوازي؛ معركة الإعمار التي تحاول السلطة التكسب من ورائها، والمعركة السياسية التي تحاول فيها السلطة فرض نفسها مجددا وترميم علاقاتها في المنطقة والعالم، مع حرصها على عدم إعطاء أي فرصة لقيادة المقاومة من تحقيق أي أهداف سياسية من وراء هذه المعركة.
ويمكن القول إنه وعلى الرغم من المساعي غير الوطنية لقيادة السلطة فإنها لن تفلح في تحقيق أي من أهدافها سواء فيما يتعلق بالإعمار، أو التفرد بالقرار السياسي الفلسطيني، لأن قيادة المقاومة قادرة على فرض نفسها، وتقديم رؤيتها الوطنية، بعيدا عن لغة الابتزاز، والمساومة، في ظل امتلاكها "القوة الكافية" لإحداث التغيير المطلوب، وأقصد بذلك الاحتضان والتفويض الشعبي، والإرادة والقدرة السياسية، والقوة العسكرية التي تردع بها الاحتلال وتفرض بها شروطها بعيدا عن مسارات لصوص الحروب.