لم تكن (إسرائيل) في حالة نقاش مبدئي حول مستقبلها كما هي الآن، رغم ما يرى البعض أنها وصلت على علو وازدهار يبهر عيون الضعفاء! ولعل سبعة عقود من النضال الفلسطيني للمشروع الصهيوني والتي شكلت معركة "سيف القدس" ذروة نتائجها، قد طرحت الأسئلة الكبيرة حول العديد من النظريات التي قام عليها المشروع الصهيوني بنسخه المتعددة. حيث إن الصهيونية لم تبدأ حركة سياسية إلى أن انتخب "هرتزل" رئيسًا لها خلال المؤتمر الأول عام 1897م في مدينة بازل السويسرية، فأصبحت فكرة الصهيونية تقوم على مبدأ رفض اندماج اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها، والعمل على "إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين"، حيث تطلب ذلك تغييرات جذرية لتحويل اليهودية من دين إلى قومية عرقية! وهذا ما يفسر حالة الانغلاق الإسرائيلي رغم محاولات التطبيع مع المجتمعات، سواء في أوروبا الغربية أو حتى المشرق العربي.
لقد أظهرت هبة الداخل المحتل نصرة للأقصى والشيخ جراح؛ العنصرية الصهيونية ضد المقدسات في القدس وضد الإنسان العربي في اللد وحيفا والجليل وأم الفحم والنقب وفي كل المدن والقرى المحتلة، فأسقطت نظرية التعايش مع المجتمعات العربية، التي تتناقض مع الفكرة الإنعزالية للصهيونية التي قادت (إسرائيل) لعقود، وهذا يبشر بفشل محاولات التطبيع مع المجتمعات العربية رغم بعض المظاهر الإعلامية المبتذلة.
كما أن معركة سيف القدس قد أظهرت فشل نظرية الحصار على غزة لمنع تطور قدرات المقاومة الفلسطينية وإفشال مشروع حماس السياسي. فأثبتت يوميات المعركة قدرة المقاومة على مفاجأة العدو الإسرائيلي عسكرياً وأمنياً، كماً ونوعاً. حيث استخدمت قدرة صاروخية تصل إلى 250 كم تتمكن من الوصول إلى أي نقطة داخل فلسطين المحتلة، وإدخال طائرات مسيرة أكثر دقة مما كانت عليه عام 2014م، واستطاعت الاختفاء الكامل تحت الأرض بعدتها وعتادها وقياداتها، فشطبت كل بنوك الأهداف التي أعدها الشاباك والاستخبارات العسكرية.
قبل 46 عامًا صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379 في نوفمبر 1975م، والذي اعتبر "أن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري". وطالب القرار دول العالم بمقاومة الأيديولوجية الصهيونية كونها تشكل خطراً على الأمن والسلم العالميين. وبقي القرار حتى عام 1991م حين ألغي -للأسف- بقرار آخر، كشرط لقبول مشاركة (إسرائيل) في مؤتمر مدريد للسلام 1991م! ورغم أن القرار لم يشكل حافزاً حقيقياً للدول العربية أو الإسلامية للعمل على تحرير فلسطين، إلاّ أن إلغاءه مثل نقطة ارتكاز لفشل العرب دبلوماسياً وسياسياً، وقد ظهر اليوم أن التطبيع السري للأنظمة العربية مع العدو كان يقتضي دعم كل ما يحمي الصهيونية ودولتها على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه.
ويمكن قراءة خمس مسارات استراتيجية يعتمد عليها المشروع الصهيوني في المنطقة، تشمل: تهويد مدينة القدس، وتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية، واستمرار الحصار غزة، وتعزيز التطبيع مع العرب، ودمج (إسرائيل) سياسياً واقتصادياً في المنطقة.
من المهم أن ندرك أن مواجهة المشروع الصهيوني لا تتم إلا عبر تتبع مساراته الإستراتيجية وإفشالها بالتوازي بغض النظر عن الزمن، فالمشروع الصهيوني استغرق أكثر من 150 عامًا من التنظير الديني والفكري، والتجارب والصراعات بين أقطابه اليهودية، إلى أن وصل إلى تشكيل إطاره الموحد "المنظمة الصهيونية. كما أنه من المفيد أن ندرك أن العالم لم يمنح اليهود دولة في فلسطين على طبق من ذهب، فهؤلاء قاموا بجهود كبيرة على مدى أكثر من مئة عام، حتى استطاعوا إقناع الدول العظمى والمكونات المؤثرة في هذا العالم الظالم، بأن إقامة دولة لليهود يعني استقراراً أكبر لشبكة مصالحهم سواءً المشتركة أو الثنائية، وهذا ما فشلنا فيه كعرب ومسلمين!
إن عروبة القدس تحميها التضحيات وصمود أهلها حتى وإن تجاهل العالم 60 قراراً دولياً تؤكد على مكانة القدس وواجب حمايتها من جرائم الاحتلال الإسرائيلي، وتحذر من تداعيات اقتحامات المتطرفين اليهود للمسجد الأقصى.
لقد نجح مشروع المقاومة للصهيونية ودولتها في إسقاط العديد من النظريات التي عمل عليها العدو لسبعة عقود من أجل استمرار بقائه، واستبدلتها بوعي فكري وعمل عسكري وسلوك اجتماعي، يؤسس لنظريات وطنية متكاملة:
1. لا تعايش بين اليهود والعرب نتيجة عنصرية الدولة والطبيعة الصهيونية.
2. لا عاصمة موحدة لكيانهم في ظل قوة الوجود العربي وإسناده.
3. لا قوة أمنية أو عسكرية يمكنها وقف تعاظم قوة المقاومة.
لقد استطاعت مقاومة الشعب الفلسطيني أن تقدم نموذجاً وطنياً ناجحاً في مواجهة المشروع الصهيوني، فصمدت في وجه قوته العسكرية والأمنية، وتمكنت من تبديد أحلامه بالاستقرار الاجتماعي والسياسي، وأظهرت للعرب والمسلمين وأحرار العالم صورة واقعية عن عنصرية الدولة الصهيونية (إسرائيل) وجرائمها التي نشأت على ارتكابها منذ عقود. والحاجة الآن أكبر من أي وقت إلى صياغة مشروع وطني شامل يصل إلى التحرير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.