خلال حرب (إسرائيل) الأخيرة على غزة، نشرت صحف "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" و"وول ستريت جورنال" الأمريكية تصريحا للناطق باسم (الجيش الإسرائيلي) جوناثان كورنيكاس، مفاده أن (إسرائيل) بصدد شن هجوم أرضي على غزة، واتضح بعدها بساعات أن ذلك كان خديعة متعمدة تهدف إلى استدراج حركة حماس كي تحرك عناصرها المقاتلة إلى مناطق حدودية مكشوفة فيسهل استهدافها جوا.
وبموازاة ذلك التصريح نشر عوفير غندلمان الناطق باسم الحكومة الإسرائيلية مقطعي فيديو "يثبتان صحة الادعاء الإسرائيلي بأن حماس تستخدم مواطني غزة كدروع بشرية"، وفي المقطع الأول يُرى مقاتلون من حماس وهم يديرون في منطقة مأهولة بالسكان، منصة لإطلاق الصواريخ على المدن والبلدات الإسرائيلية، وسرعان ما اتضح أن المشهد يتعلق بمجموعة سورية معارضة كانت تقصف أهدافا حكومية داخل الأراضي السورية عام 2018، بينما كان المقطع الثاني لطابور عسكري يرافق منصة صاروخية "تشق شوارع مدينة غزة"، وكان الطابور في حقيقته في منطقة الجليل التي تسيطر عليها (إسرائيل) ويعود أيضا إلى العام 2018.
ثم وفي سياق حملتها الإعلامية لتأكيد أن الفلسطينيين يزعمون كذبا أن ضحايا الغارات على غزة بالمئات، بثَّ ناتاليا فاديف من شرطة (إسرائيل) العسكرية مقطع فيديو لموكب جنائزي "مفبرك" في غزة يرى فيه السائرون خلف الجثمان وهم باسمون وضاحكون، وكان المشهد المبثوث في حقيقته عملا فنيا هزليا قام شبان أردنيون بتصويره ووضعه في منصة تيك توك.
لجأت (إسرائيل) إلى التضليل الإعلامي، ومارست فبركة الصور الثابتة والحية، وعينها على الرأي العام الغربي الذي انتفض مستنكرا للوحشية المفرطة التي مارستها (إسرائيل) خلال أيار (مايو) الماضي في غزة، لإدراكها أن الحقائق على الأرض تثبت أنها خرقت القانون الدولي، وداست على كل ما تواطأ عليه بنو البشر من قيم أخلاقية، وقد انطلت أكاذيب إسرائيلية كثيرة في سياق حروبها الكثيرة على الفلسطينيين وجيرانها العرب على الرأي العام العالمي على مر عقود طويلة، ولكن تكنولوجيا الاتصال الرقمي جعلت حبل الكذب قصيرا في السنوات الأخيرة، فكان أن ارتدت أكاذيب (إسرائيل) عليها خلال حربها الأخيرة على غزة.
كان الإعلام فنا في الأصل، فقد مارسه عبر القرون هواة موهوبون في مجالات التعبير بمختلف الأدوات، وشيئا فشيئا استنبطت أجيال لاحقة القواعد والضوابط لممارسة الإعلام بأساليب فعاله ومؤثرة، فكان أن صار الإعلام علما له قواعد متعارف عليها يتم تدريسه في المعاهد والجامعات، ولاستثمار تأثير الإعلام نشأ الإعلام المضاد القائم على ترويج الأكاذيب للتأثير على الرأي العام، وكان الفارس الأول في هذا الميدان الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين الذي أسس وحدة للتضليل الإعلامي في جهاز المخابرات السوفييتي (كيه جي بي)، لتصوير بلاده كفردوس على الأرض، ووصم الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بكل ما يشين.
وهكذا بدأ التضليل الإعلامي كفَنٍّ قائم بذاته يتم فيه استغلال قواعد علم الإعلام المتفق عليها عالميا لبث الأكاذيب والشائعات لتبرير موقف ما أو النيل من طرف ما، وسرعان ما صار جهاز المخابرات المركزية الأمريكية "سي آي إيه" كبير أساتذة هذا الفن، والتاريخ القريب، والذي معظم شهوده أحياء، يثبت أن الولايات المتحدة مارست أقصى درجات التضليل الإعلامي لتبرير غزوها للعراق في عام 2003، بل ولاستدراج عدد كبير من الدول لتشارك في الغزو فتتوزع دماء العراقيين بين قبائلها، ولتلك الغاية تم فبركة مشاهد فيديو لمستودعات عراقية لأسلحة الدمار الشامل العراقية، والإتيان بشهود زور يقدمون إفادات بأن عراق صدام حسين لديه ترسانة من الأسلحة الكيمائية والجرثومية.
وفي عالم اليوم الذي صار فيه تداول المعلومات للتنوير أو التضليل أمرا ميسورا، لأن معلومة صادقة أو مضللة تكون نقطة انطلاقها مثلا مدينة سان فرانسيسكو في أقاصي الغرب الأمريكي، تنتقل خلال ثوان معدودة عبر آلاف الأميال وفي كل الاتجاهات، وتصبح متداولة بين الملايين، وبالتالي لم تعد أجهزة المخابرات الحكومية في أي دولة بحاجة إلى تكبد كثير عناء لتسريب المعلومات إلى وسائل الإعلام التقليدية، بل يكفي بثها عبر تطبيقات "تويتر" و"فيسبوك" و"تيك توك" وغيرها لضمان وصولها إلى الجمهور المستهدف، ولعل تطبيق واتساب هو الأكثر تفضيلا لممارسة التضليل الإعلامي العابر للقارات، والذي يقوم على ليِّ أعناق الحقائق، أو الترويج لنظريات المؤامرة، أو بث أخبار كاذبة مؤيدة بشهادات ووثائق مزورة، ويفاجأ كثيرون في هذا البلد أو ذاك بأن "فاعلي خير" قاموا بإضافتهم إلى مجموعات (قروبات) واتساب معنية بأمور تحظى باهتمامهم، وقد ينتبه بعض هؤلاء أو لا ينتبهوا إلى أن هذه المجموعة أو تلك لديها رسالة مبطنة تأتي مدسوسة بين ركام التعليقات والمقاطع الصوتية والفيديوية.
تملك (إسرائيل) أذرعا إلكترونية ضخمة وشديدة التقدم تعينها على شن حرب نفسية على ما تبقى من خصومها العرب، ولممارسة التضليل الإعلامي بكفاءة عالية للتأثير على الرأي العام الغربي لتقنعه بأنها الضحية وليست الجاني، ثم وهي وفي أيار (مايو) المنصرم تبادر بالضرب وتتبعه بالبكاء والشكوى بلغت شأوا عاليا في ما يمكن تسميته بالكذب المسلّح (وإن شئت قل المُصَلَّح).