يعمد الإسرائيليون إلى الكشف عن كل اتصال يتم بينهم وبين طرف عربي، حتى والطرف الأخير يشترط التكتم على الاتصال "حتى تستوي الطبخة"، ويرمون من وراء ذلك إلى إحراج الطرف العربي وإرغامه على اللعب على المكشوف، وهكذا سافر رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان في شباط (فبراير) الماضي إلى أوغندا في زيارة غير معلنة للقاء رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو سرًّا، ولكن وسائل الإعلام الإسرائيلية جعلت اللقاء جهرا، وعمومًا ما من دولة عربية غازلت "إسرائيل" "من تحت الطاولة"، إلا وفضحتها "إسرائيل"، ولسان حالها يقول للدولة المفضوحة: أنتِ الغريقة فما خوفك من البلل؟
وعندما أصيبت السيدة السودانية-النمساوية نجوى قدح الدم التي رتبت لذلك اللقاء بالكورونا، جاءت بعثة طبية إسرائيلية إلى الخرطوم لنقلها إلى "إسرائيل"، ولكن عزرائيل وصل إليها قبلهم، حيث أسلمت الروح قبل اكتمال ترتيبات النقل، وتكتمت السلطات في الخرطوم على الأمر ولكن الحكومة الإسرائيلية سرَّبت الخبر.
ويوم الخميس 22 تشرين أول (أكتوبر) الجاري نزلت في مطار الخرطوم طائرة تقل وفدًا إسرائيليًّا، وأمضى أعضاء الوفد بضع ساعات في العاصمة السودانية قبل أن يقفلوا راجعين، وكالعادة سدَّت حكومة الخرطوم أُذنًا بطين والأخرى بعجين، ولم يصدر عنها نفي أو تأكيد للزيارة، غير أن مصادر إسرائيلية قالت إن هذه المجموعة هي "وفد المقدمة"، بمعنى أنهم فقط مهَّدوا للقاء على مستوى أعلى لتطبيع العلاقات بين "إسرائيل" والسودان، خاصة أن رئاسة ذلك الوفد انعقدت لرونين بيرتس، القائم بأعمال مدير مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، يرافقه مسؤولون عن ملفات الدول العربية، ويقول موقع "والا": إن مسؤولَيْن أمريكيَيْن كانا ضمن الوفد، هما كبير مديري شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مجلس الأمن القومي التابع للبيت الأبيض، ميغيل كوريا، وسفير الولايات المتحدة لدى "إسرائيل"، ديفيد فريدمان.
تزامنت هذه الزيارة مع إرهاصات قيام واشنطن برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، بعد قيام الأخير بسداد الفاتورة التي طالب بها الأمريكان نظير الأرواح التي أزهقت هنا وهناك بسبب عمليات نفذها تنظيم القاعدة، الذي تفيد كل القراءات أن لبناته وضعت على أرض السودان، خلال إقامة زعيمه أسامة بن لادن في الخرطوم.
كانت واشنطن تضغط في بادئ الأمر على الربط بين شطب السودان من تلك القائمة السوداء بسداد الغرامة وتبادل العلاقات الدبلوماسية بينه وبين "إسرائيل"، ولكن المفاوضين السودانيين قالوا للأمريكان إن الشعب السوداني سيرفضه بقوة باعتباره ذلك ابتزازا مهينا، وبناءً عليه لا بد من الفصل بين المسارين على أن تدرس الخرطوم أمر التطبيع بعد رفع العقوبات الأمريكية عنها.
رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك قالها صراحة أكثر من مرة، أنه أبلغ الجانب الأمريكي أن حكومته لا تملك صلاحية البت في تطبيع العلاقات مع "إسرائيل"، ولكن العسكر الجالسين في مجلس السيادة (رئاسة الدولة الجماعية) يجاهرون بتحبيذهم التطبيع، ومن سخريات المقادير أن كوادر حزب المؤتمر الوطني الذين ظلوا يحكمون السودان طوال ثلاثين سنة، ثم خسروا السلطان بعد ثورة كانون أول (ديسمبر) 2018 الشعبية، راهنوا لعدة أشهر على انقلاب أولئك العسكر على الحكومة التنفيذية المدنية وخرجوا في مسيرات يناشدون فيها البرهان الاستيلاء على السلطة، فإذا بالبرهان هو رأس الرمح في جهود مغازلة "إسرائيل" والاعتراف بها، ولا يليق بعضوية حزب حكم باسم الإسلام أن يساند رجلا يريد السير في دروب يرفضها أي شخص يدعي الإسلاموية ولو من منطلقات انتهازية.
مصادر أمريكية وإسرائيلية ظلت تردد خلال الأيام القليلة الماضية أنه سيتم إشهار العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين "إسرائيل" والسودان في غضون أيام قليلة، بل إنّ هناك من قال إن ذلك سيتم في اليوم الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وإذا بترامب يعلن أمس الجمعة 23 تشرين الأول (أكتوبر) أنَّ السودان و"إسرائيل" اتفقا على تبادل البعثات الدبلوماسية، ولو كان الأمر بأيدي عسكر مجلس السيادة السوداني لحدث ذلك منذ شهور، ولكن العصمة في شؤون السياسات العليا للبلاد ليست في أيديهم، وعبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة وصاحب مبادرة التطبيع يعرف ذلك وما زال يتميز غيظا من الغضب الشعبي العارم الذي أثاره لقاؤه بنتنياهو، ومن ثم سلم المبادرة لنائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) وفات عليه أن الأخير لا يتمتع بأي سند شعبي رغم كل ما يبذله من جهد ومال لطرح نفسه كرجل دولة "منقذ".
ومن الواضح أنَّ هناك جهات تعمل على استمالة الرأي العام السوداني لمشروع التطبيع، فقد شكل البعض جمعية الصداقة السودانية -الإسرائيلية (رفض مسجل التنظيمات العامة تسجيلها)، ويجري منذ أيام إعادة تأهيل مقابر اليهود في الخرطوم، وهناك كتيبة إلكترونية تتولى الترويج للفكرة عبر مختلف الوسائط.
ولكن مهما قال ترامب، وبغض النظر عن الوعود التي تلقاها من الخرطوم فإن هناك تيارًا شعبيًا سودانيًّا عريضًا يرفض التطبيع، وتخشى الحكومة الحالية (وهي انتقالية مهمتها الأساسية ترتيب انتخابات عامة ليختار الشعب حكامه) أن تفقد سندها الشعبي، إذا خاضت في مياه التطبيع الساخنة وأن تنقلب عليها نفس الجماهير التي ظلت تساندها منذ تشكيلها في آب (أغسطس) من عام 2019، خاصة أن رئيس الحكومة السودانية عبد الله حمدوك ردد مرارا أن قرار التطبيع ليس من صلاحيات جهة سوى المجلس التشريعي (الذي لا وجود له الآن).
فهل "تلحس" حكومة السودان الانتقالية كلامها ذاك، وتقدم على خطوة قد تزلزل الأرض تحت أقدامها وتفقدها قسمًا كبيرًا من رصيدها الشعبي؟