الحديث عن هزيمة 67 يثير في نفسي دائمًا كمًّا كبيرًا من الغصة والقهر، وغالبًا ما تمنعني هذه الحالة من مواصلة القراءة أو الكتابة عن هذه الهزيمة البشعة، التي قصمت ظهر الأمة العربية ولم تقم لها قائمة منذ ذلك الوقت، وجعلت من دولة الاحتلال أسطورة زرعت الرعب لعقود طويلة في نفوس الأجيال التي عاشت زمن هذه الهزيمة، هذا الرعب الذي مكَّن الاحتلال من الهيمنة والسيطرة ليس فقط على الأرض وإنما على العقول والخواطر والأفكار، وحوَّل العربي إلى ذلك الغبي الهمجي ذي الكرش الضخم والنظرة البلهاء، الذي لا يهمه شيء من هذه الدنيا سوى الأكل وممارسة الجنس، مقارنة باليهودي الذي يتصف بالذكاء والفطنة والمتسلح بالعلم والمعرفة، الذي يمارس حياة حضارية تجمع بين العلم والرفاة الاقتصادي.
كل ذلك كان سببه الهزيمة التي لحقت بالعرب عام 67،و رغم أن محاولات كثيرة بذلت لإخراج ذلك الجيل من حالة الانهزامية التي انغرست في وجدانه، إلا أن ذلك لم يصل إلى الحد الذي يمحو آثار هذه الهزيمة من رؤوسهم، وهذا ما تجلت آثاره مؤخرًا في قيام مجموعة من الدول العربية التي تشربت ثقافة الهزيمة حتى الثمالة بالتطبيع مع الاحتلال، رغم بارقة الأمل التي مثلتها المقاومة في العقد الأخير وما ألحقته بصورة الاحتلال التي رسمها على مدار 54 عامًا من خزي وذل، أعاده إلى صورته الحقيقية التي ما زالت غائبة عن عقول كثير من العرب الذين تملكت عليهم الهزيمة عقولهم وأفئدتهم بحيث ظلوا محلقين عاجزين عن تقبل واقع هزيمة الاحتلال.
لم يكن العرب في 67 ينقصهم سلاح ولا مال، ولكن كان ينقصهم بشدة النظام المؤسسي العادل الذي جعل من الأشخاص مهما بلغت مكانتهم وقودًا لتطور الدولة وحضارتها وقوتها، وليس كما كان سائدًا في النظام العربي آنذاك، أن جعل من الدولة وسيلة لزعامة الفرد وطغيانه، ولذلك تم التضحية بالدولة من أجل الفرد، وعندما هزمت الدولة ونجى الفرد اعْتُبِر ذلك انتصارًا حسب زعمهم.
فحسب ما دارت به الأحداث كان يرأس حكومة الاحتلال وقت الحرب ليفي أشكول، وكما عرف عن ليفي أشكول أنه كان أضعف رئيس وزراء تبوء هذا المنصب في دولة الاحتلال من حيث قوة الشخصية والكاريزما والحضور الشعبي، بينما كان يرأس جمهورية مصر العربية جمال عبد الناصر، الذي كان يتمتع بكاريزما هائلة وقوة حضور طاغية، وكان الجيش المصري مسلح بأحدث الأسلحة السوفياتية وعدد قواته يفوق بأضعاف قوات الجيش الصهيوني وحسب المعلومات التي توفرت فإن الجيوش العربية كانت تمتلك عددًا من الطائرات والدبابات وناقلات الجند والمدافع أكثر بكثير مما هو لدى الجيش الصهيوني، حيث كان لدى العرب حوالي 975 طائرة مقاتلة بينما كان لدى الاحتلال حوالي 300 طائرة وكان لدى العرب حوالي 2500 دبابة بينما لم يكن لدى الاحتلال سوى 800 دبابة، وكذلك الأمر كان الفرق كبيرًا في عدد المدافع وناقلات الجند ناهيك بالفارق الشاسع في عدد الأفراد، ولكن كانت نتيجة المعركة حوالي 25 ألف قتيل عربي مقابل حوالي ألف قتيل صهيوني، واحتلال كل من الضفة الغربية بما فيها القدس، وقطاع غزة، وسيناء التي تعادل مساحتها ضعفي مساحة فلسطين التاريخية، إضافة إلى احتلال هضبة الجولان السورية، مما تذكره الوثائق التاريخية أن ابنة رئيس أركان الاحتلال ذكرت في مقابلة لها على القناة 13 الإسرائيلية، أن والدها إسحاق رابين كان قلقًا جدًا من نتائج الحرب، وأنه حينما انطلقت العملية العسكرية الإسرائيلية حوالي الساعة 7:45 دقيقة صباح 5 يونية 67، تضاعف القلق لدى والدها وأصيب بانهيار عصبي أدى إلى نقله لتلقي العلاج النفسي، إلا أن القوات الصهيونية حققت النصر في الساعات الأولى للمعركة، وجاءته أخبار الانتصار وهو يغط في نوم عميق، تذكرنا هذه القصة بالحالة التي مر بها رئيس أركان حرب العدو إبان حرب 2006 ضد المقاومة اللبنانية، حينما أصابته جلطة أودت به إلى المستشفى بعد معركة وادي الحجير الشهيرة التي سميت مجزرة الدبابات، حينما دمرت المقاومة أكثر من 40 دبابة إسرائيلية وقتلت حوالي 110 جنود، مما تذكره الوثائق التاريخية أيضًا أن إسرائيل استخدمت قنابل من الصناعات الإسرائيلية لتدمير مدرجات الإقلاع بهدف منع الطائرات المحمية في الملاجئ من التحليق في وقت لاحق، وذلك يعيدنا إلى معركة سيف القدس الأخيرة التي استخدم خلالها العدو القنابل الأمريكية الهائلة التدمير، القادرة على اختراق التحصينات للوصول إلى أعماق أنفاق المقاومة للقضاء على قيادات المقاومة ومرابض الصواريخ، ولكن في الوقت الذي نجحت فيه إسرائيل في مهمتها تجاه المطارات العربية عام 67 فقد فشلت فشلًا ذريعًا تجاه المقاومة عام 2021 على الرغم من الفارق الشديد في مقدار القوة والتطور التكنولوجي للطائرات الإسرائيلية والقوة التدميرية للصواريخ والقنابل التي استخدمت ضد المقاومة 2021 مقارنة مع حالة الطائرات الصهيونية وقدرتها التكنولوجية في 1976، إضافة إلى الفرق الشديد بين ما لدى المقاومة من مقدرات في 2021 وما بين ما كان لدى الدول العربية في 1967.
عند مقارنة احداث عام 1967 بأحداث العقد الأخير، نجد أن المسألة لم تكن أبدًا في المعدات أو السلاح أو القدرات، ولكن ببساطة المسألة تكمن في الإنسان والقيم التي يحملها.
انتصرت إسرائيل حينما تفوق الصهيوني بقيمه ومثله وعقيدته التي يحمل، وهزم العربي آنذاك لانهياره القيمي والعقائدي.
ظلت القيادات المهزومة وأتباعها يتحكمون في العالم العربي 50 عامًا بعد الهزيمة، فظل شبح الهزيمة وثقافة الهزيمة تسيطر على العرب، وعندما أزيحت هذه القيادات وأتباعها أو بعضها على الأقل، بدأت بشائر النصر تلوح في الأفق.
منذ عقد من الزمن والعرب يتنازعهم شك مرضي في إمكانية نصر المقاومة على إسرائيل، التي رَسَختْ في وجدانهم كدولة لا تهزم، ولكن مع كل معركة تؤكد المقاومة قدرتها على النصر، وتزعزع أكثر فأكثر صورة إسرائيل ككيان منتصر، وأظن أن معركة سيف القدس تمثل وصول القطار إلى محطته قبل الأخيرة تلك المحطة التي لم يبقَ عليها الكثير.