يحاول البعض -أو يرغب في- ربط التحرك الأمريكي والمصري تجاه غزة ورام الله بإحياء "عملية السلام"، في المقابل يخشى البعض الآخر من عودة كوابيس أوسلو وآثارها الكارثية على المقاومة الفلسطينية، والمشروع الوطني! ولكي تتضح الصورة وتنجلي الأوهام يجب أن نقف على مجموعة من الحقائق السياسية والاستراتيجية المرتبطة بأربعة من اللاعبين الأساسيين وهم الولايات المتحدة الأمريكية، و(إسرائيل) والسلطة والمقاومة الفلسطينية.
لقد كانت الإدارة الأمريكية الجديدة واضحة جدًّا في تحديد أولوياتها في المنطقة، والتي تشمل العودة للاتفاق النووي الإيراني (5+1) مع إجراء تعديلات عليه، ووقف الحرب في اليمن التي عينت لها مبعوثًا خاصًّا. ولم تكن القضية الفلسطينية على سلم أولوياتها، فلم تبادر بالحديث عن "إحياء عملية السلام" أو إطلاقها لتصريحات بذلك، كما هي عادة الإدارات الديمقراطية، واكتفت بأن أكدت الموقف التقليدي للحزب الديمقراطي بدعم حل الدولتين، واستئناف دعمها المالي للأونروا والسلطة الفلسطينية، ووعدت بإعادة فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن المغلق منذ 2018 لكن لم تنفذ ذلك بعد!
ولعل ما ذكره وزير الخارجية الأمريكي "أنطوني بلينكن" في مؤتمره الصحفي المشترك مع بنيامين نتنياهو يوم الثلاثاء 25 مايو 2021 خلال زيارته لتل أبيب بعيد معركة "سيف القدس"؛ يؤكد بشكل قاطع أن لا حديث عن عملية السلام أو استئناف المفاوضات بين السلطة والاحتلال. فقد حرص بلينكن على قراءة أسباب زيارته من ورقة ولم يستحضرها من ذاكرته، حيث أكد أن لديه أربع مهام: التزام الولايات المتحدة الأمريكية بأمن (إسرائيل)، وضمان الاستقرار وخفض التوتر في الضفة والقدس، ودعم المساعدات الإنسانية الطارئة لإعادة إعمار غزة، وإعادة بناء العلاقات مع الفلسطينيين والسلطة.
كما يدرك الرئيس الأمريكي جو بايدن والذي شغل منصب نائب الرئيس الأسبق باراك أوباما لثماني سنوات، أنه لا أفق ملموس لنجاح أي جهود تفضي إلى حل سياسي للقضية الفلسطينية في ظل وجود أغلبية يمينية متطرفة تحكم في (إسرائيل)، فهؤلاء يرفضون حل الدولتين ولا يؤمنون بمنح الفلسطينيين كيانًا سياسيًّا مستقلًّا، بل يتبنون سياسات عنصرية تشمل ضم معظم الضفة الغربية إلى (إسرائيل).
في المقابل فإن الإدارة الأمريكية تدرك حالة الضعف التي تعانيها السلطة وقيادتها، إذ إنها لا تستطيع تمرير أي اتفاق بشأن قضايا الحل النهائي، والتي تشمل القدس كعاصمة للدولة، وعودة اللاجئين لأراضيهم التي هجروا منها، وحدود الدولة التي تشمل كامل الضفة الغربية وقطاع غزة.
وإذا أضفنا إلى كل ذلك الواقع الذي أوجدته إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في الضفة والقدس، والتي تمنع أي نجاح سياسي لحل الدولتين وفق قواعد أوسلو التفاوضية والتي لا تمتلك أي عناصر ضغط على الاحتلال، خاصة وأنه لا يشعر بحاجته للسلطة من أجل الوصول إلى العرب، فقد نجح الاحتلال في كسر ذلك الحاجز وقام بتطبيع العلاقات الإسرائيلية مع أربع دول عربية دون أي التزام تجاه السلطة! بل قد نجح في تحويلها إلى مركز خدمات أمنية، بغطاء سياسي وهمي ليس له أي سلطة حقيقية على الأرض.
إن تحقيق المقاومة الفلسطينية انتصارًا واضحًا في معركة "سيف القدس" هو الذي أعاد القضية الفلسطينية إلى جدول الأعمال للعديد من الأطراف الفاعلة، فقد شهدنا جميعًا الاهتمام الأمريكي الكبير الذي دفع الرئيس بايدن إلى أن يتصل 5 مكالمات مع نتنياهو، و4 مكالمات مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والتأكيد المستمر لأهمية وقف التصعيد والدعوة الصريحة إلى إنهاء العملية العسكرية الإسرائيلية، بل وأرسل وزير خارجيته إلى تل أبيب بعد 72 ساعة من وقف إطلاق النار، من أجل ضمان تثبيته وعدم تدحرج الأوضاع إلى مزيد من التصعيد الذي يضر بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة. وذلك يرجع لإيمانها بأن العملية العسكرية الإسرائيلية فاشلة وليس لديها فرص لتحقيق هدف كسر المقاومة أو إضعاف قوتها وتدمير بنيتها الأساسية، وليس تعاطفًا مع الفلسطينيين!
الولايات المتحدة الأمريكية مهتمة بالمحافظة على وجود السلطة الفلسطينية الحالي، لكنها لا ترغب بتحسين وضعها السياسي وذلك التزامًا منها بأمن (إسرائيل)، ولذا فهي أعادت تمويل الأجهزة الأمنية فقط للمحافظة على دورها الأمني في الضفة، بالتوازي مع ضمان بقائها كشكل سياسي يمنع تصدر قوى المقاومة لمركز التمثيل الفلسطيني، خاصة بعد إثبات حركة حماس قدرتها على تشكيل حالة وطنية منافسة لقيادة سياسية جماعية، وامتلاكها لقاعدة انتخابية مؤثرة رغم كل ما تعرضت له من حصار سياسي وتهميش دولي وإقليمي.