شكلت المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية التي حدثت مؤخراً نقلة نوعية غير مسبوقة في ظاهرة المقاومة والمواجهة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهي تختلف شكلاً ومضموناً وأهدافاً ونتائج عن سابقاتها منذ عام 2006 مع لبنان وانتهاء بعام 2014 مع غزة.
فقد شكّلت هذه الجولة من الصراع تحولاً مهماً في أدوات الصراع وتكتيكاته ومستوى الأداء فيها، كما شكلت ضربة نوعية للقوة الإسرائيلية وقدرتها على إخضاع الفلسطينيين، وبالتالي تحولاً مهماً يتمتع بأبعاد استراتيجية قابلة للتطور خلال السنوات القادمة بفعل المقاومة والمواجهة الشعبية المساندة لها فلسطينياً وعربياً وإسلامياً ودولياً.
وشكلت نتائج المواجهة ضربة قاصمة لادعاءات قوة السلاح والاستخبارات الإسرائيلية التي تهاوت أمام قيادة المقاومة الفلسطينية وإرادتها وإصرارها.
ومن جهة أخرى كشفت هذه المواجهة الهشاشة التي تتمتع بها الجبهة الإسرائيلية الداخلية، وأن (إسرائيل) لا تتمتع بأي عمق استراتيجي، وأن الفعل الفلسطيني قادر على إضعاف قدرتها الاستراتيجية على السيطرة والهيمنة أو سيادة المشهد العسكري والأمني.
كما كشفت هذه المواجهة عن إرادة حديدية متجددة للمقاومة التي خاضت مع (إسرائيل) سابقاً حروباً ثلاث ومئات العمليات التكتيكية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأظهرت المواجهات أن المجتمع العربي في (إسرائيل)، وبعمقه العربي والإسلامي على حد سواء، لا زال ينتمي إلى المشروع الوطني الفلسطيني، وأنه قادر في اللحظة المناسبة على توجيه ضربة قوية لأمن الاحتلال.
وأكدت المواجهة أنّ وحدة فصائل المقاومة ووحدة الميدان في المقاومة المدنية في الضفة الغربية والقدس والخارج، والمجتمع الفلسطيني في (إسرائيل) (عرب 1948)، قادرة على تحقيق إنجاز سريع ومستقر يؤسس لمرحلة التحرير والعودة، ولكنها أظهرت في المقابل خطورة استمرار الانقسام الفلسطيني لما يؤديه من هدم وإضعاف في قوة الشعب الفلسطيني.
وعلى الصعيد الخارجي أكّدت المواجهة أن حيوية الأمة العربية والإسلامية والضمير العالمي لا تزال قادرة على الإسناد والتأثير في حال كان الفعل الفلسطيني موحداً وجاداً وقادراً على الاستمرار، وأنّ ثمّة قدرة فلسطينية عالمية متميزة في الحشد في أوروبا والأمريكيتين وآسيا وإفريقيا، وذلك باتحادها مع القوى العربية والإسلامية وأنصار حقوق الإنسان في العالم، بل وأنها قادرة على شق الصف المناصر لـ(إسرائيل) في العالم.
ومن جانب آخر أظهرت هذه المواجهة القدرة الممكنة والكامنة لقوة المقاومة ونجاحها العسكري في ظل أربعة معطيات. الأول الوحدة القيادية، والثاني إدارة وتطوير القدرة الميدانية حسب المتغيرات وبشكل تصاعدي وأحياناً بالصدمة، والثالث توفر الحاضنة الشعبية ووحدتها وقدرتها على تحمّل عدوان الاحتلال، خصوصاً في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس، والرابع توفر دعم إقليمي ودولي شعبي ورسمي يُضعف قدرة الاحتلال على تحريض العالم ضد الشعب الفلسطيني وتبرير عدوانه عليه، بل إن هذه الجولة سببت اختراقات في داخل الأنظمة البرلمانية والسياسية والعسكرية والأمنية لـ(إسرائيل) والولايات المتحدة وأوروبا على حد سواء.
وعلى الجانب الإسرائيلي أثبتت هذه المواجهة أن القدرات العسكرية الإسرائيلية برغم تقدمها التكنولوجي فإن قدراتها الحقيقية على تغيير المعادلات محدودة، وأن قدرات المقاومة الأقل تقدماً تكنولوجياً كانت أكثر نجاعة في تحديد مسارات بل نهاية المعركة، وذلك رغم لجوء (إسرائيل) إلى التدمير الممنهج في محاولة لإثارة الرأي العام الفلسطيني ضد المقاومة كما فعلت عام 2006 في لبنان، لكنّ الإجماع الفلسطيني والعربي والإسلامي الشعبي وبعض الرسمي أضعف هذه الاستراتيجية، فضلاً عن القدرة الكامنة لدى أبناء قطاع غزة على تحمل ضربات العدو وامتصاصها، خصوصاً في ظل قدرة المقاومة على إضعاف دور وفاعلية شبكات التثبيط والانهزام والجاسوسية المرتبطة بـ(إسرائيل) في الميدان.
كما أثبتت المواجهة أن الاحتلال الإسرائيلي غير قادر فعلياً على مواجهة القوة الفلسطينية الشعبية منها والمسلحة على حد سواء، وأن تنبؤاته بالواقع الفلسطيني برغم كل الجهود الاستخبارية المتقدمة التي يقوم بها لا تزال ضعيفة على أقل تقدير، حيث لم يستطع (الجيش الإسرائيلي) أن يحقق أي أهداف عسكرية ذات قيمة، واقتصر إبداعه على تدمير البنى التحتية ومنازل المقاومين والعمارات السكنية في الأبراج وبعض مباني السلطة في القطاع وخاصة المباني الأمنية، الأمر الذي يوفر الفرصة الكبرى مستقبلاً لنجاح التكتيكات والمبادرات الفلسطينية في المواجهة المسلحة والمدنية لصالح المشروع الوطني الفلسطيني بالتحرير والعودة.
وقد أسست هذه المواجهة لمرحلة جديدة بمعادلات جديدة تتسم بقدرة كامنة لأبعادها الاستراتيجية، خصوصاً ما يتعلق بالقدرة على اختراق العمق الأمني وقوته الردعية، بل خطوط دفاعه الجوية والميدانية والرادارات، ما يؤهل المرحلة القادمة لأي مواجهة أن تُحدِث تغييرات استراتيجية ربما تكون متقدمة، لتشكل حالة التراكم الطبيعي لدحر الاحتلال وهزيمة المشروع الصهيوني في هذا العقد أو الذي بعده، حيث أكّدت المواجهة أنّ مفاوضات السلام واتفاقات السلام والتطبيع بكل أنواعها لم تتمكن من خلق حالة انسجام أو توافق مع أهداف ومتطلبات قوة دولة الاحتلال واستمرارها، بل لم تقدّم لها حماية حقيقية، وأبقتها عاجزة عن مواجهة المقاومة الفلسطينية، خصوصاً إن تلقت دعماً حقيقياً عسكرياً من إحدى دول المواجهة العربية أو غيرها.
كما أسست هذه المواجهة لحالة فلسطينية جديدة، ولمرحلة جديدة من الصراع مع الاحتلال، ولفكر جديد في فهم وإدارة الصراع مع الاحتلال عربياً، ولمرحلة المواجهة المفتوحة معه دولياً بالوسائل الدبلوماسية والقانونية والحقوقية.
ولذلك فقد وفرت هذه المواجهة فرصاً استراتيجية عديدة تحتاج إلى إعمال العقل والقلم والفكر الاستراتيجي الفلسطيني والعربي والمسلم خلال الأشهر القادمة للتوصل إلى رؤى متقدّمة لمواجهة المشروع الصهيوني وهزيمته وتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني بالتحرير والعودة.