ما تقوم به "إسرائيل" أو تحاول أن تقوم به فيما عرف بضمّ الأراضي الفلسطينية هو تطبيق الجزء الخاص بحصّتها المباشرة من "صفقة القرن" التي أُعلنت في كانون الثاني/ يناير 2020.
ويشمل هذا الجزء كلّ المستوطنات والبؤر الاستيطانية ومحميّاتها الأمنية وطرقها الالتفافية التي تحاصر أي تجمعات للمواطنين الفلسطينيين فيها، وكاملَ غور الأردن الفلسطيني وشمالَ البحر الميت ما عدا مدينة أريحا وبعض القرى.
ويعتبر "رئيس الوزراء الإسرائيلي" أن الفرصة التاريخية مواتيةٌ في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وفي ظل تقارب دول عربية خليجية مع ""إسرائيل"" وضعف أداء القيادة الفلسطينية والانقسام الفلسطيني، ويستند في هذا إلى تجربة إعلان القدس كعاصمة موحدة ل"إسرائيل" عام 2017 في ظل ردود فعل باهتة، فلسطينياً وعربياً ودولياً، وغيرِ قادرة على منعها من تنفيذ ذلك القرار.
وتسعى "إسرائيل" بهذا الضمّ إلى حصار وإحاطة المعازل والتجمعات الفلسطينية في الضفة الغربية وتقطيع أوصالها بالكامل بما يصل إلى 200 تجمع، حسب بعض التقديرات الإسرائيلية، حيث تتحكم "إسرائيل" بالحركة الداخلية فيما بينها، ومع العالم الخارجي بالكامل، بما في ذلك التواصل مع الأردن الرئة الطبيعية للضفة الغربية، في خطوة تحمل مخاطر التهجير الداخلي في الضفة الغربية إضافة إلى الأردن، كما تحمل إنهاء مسار المفاوضات السياسية، بل وإنهاء الاتفاقيات الموقعة مع الفلسطينيين عام 1993 والأردنيين عام 1994، ومع المصريين عام 1978.
ولذلك تعد خطوة الضم الجديدة خطوة استراتيجية دراماتيكية تعني نقل العلاقات العربية- الإسرائيلية إلى واقع جديد تكون يد "إسرائيل" فيه هي الطولى، ولا تتصف هذه العلاقات بصفة العداء، حيث تكون قد تمّت تصفية القضية الفلسطينية (على الأقل من جداول الأعمال) محط الصراع كما ترى نخب عربية حاكمة عديدة، وتتراجع بذلك أهمية العامل الفلسطيني في علاقات العرب مع "إسرائيل"، وتتحول العلاقة العربية- الإسرائيلية إلى تعاون وتطبيع وتنسيق، ولخدمة المشروع الصهيوني بالطبع.
لذلك فإن الأبعاد المترتبة على تمرير خطة الضم التي تريدها "إسرائيل" تشمل الأبعاد السياسية والاستراتيجية والقانونية والاقتصادية والفكرية لصالح المشروع الصهيوني. بمعنى آخر أنّ ثمة تحولًا من حالة التفاوض والسلام إلى حالة المواجهة وتطبيق القرارات من جانب "إسرائيل" وحدها، ما يعني حكماً بأنه تحولٌ استراتيجي في الصراع بين العرب و"إسرائيل".
وتستند الخطوة إلى حكومة إسرائيلية موحدة بقيادة اليمين وإلى جانبه اليمين المتطرف والوسط في "إسرائيل"، ما يعني أن المجتمع الإسرائيلي يقف خلف الحكومة وبدون معارضات قاهرة للقرار السياسي في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، وفي ظل حماية أمريكية مُعلَنة من أي عقوبات دولية عبر الأمم المتحدة، في مقابل ضعف أدوات الرفض الدولي والعربي والفلسطيني للخطوة حتى تاريخ كتابة هذا المقال.
ويمكن أن تصل المساحات المقتطعة بهذا الضم من الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية إلى حوالي 45% في المرحلة الأولى، وقد تصل إلى 60% أو أكثر في حال تمت عمليات تهجير للمواطنين الفلسطينيين لاحقاً سواء إلى معازل فلسطينية أخرى داخل ما تبقى من الضفة الغربية أو إلى الأردن.
وقد كانت ردود الفعل الدولية والعربية والفلسطينية صاخبة ورافضة لهذا القرار الإسرائيلي، لكنها لم تتحول بعد إلى برامج عمل حقيقية يمكن ل"إسرائيل" أن تحسب حسابها كي تتراجع عن القرار، حيث لا مقاطعات ولا قرارات دولية ملزمة، ولا سحب لسفراء ولا إلغاء لعلاقات أمنية ولا تجارية ولا اقتصادية مع دولة الاحتلال من أحد.
ولا زال الرسميون العرب والأردنيون بل وبعض الفلسطينيين يطرحون فكرة التفاوض والسلام كخيار بديل، بينما ردود الفعل الشعبية الدولية والعربية والفلسطينية لا تزال متواضعة ومبعثرة وبلا رؤية ناظمة وبالتالي غير فاعلة أو مؤثرة على القرار الإسرائيلي، وإن كان سيحصل أي تأخير في التطبيق فسيكون لأسباب سياسية في "إسرائيل" ذاتها، وربما لأسباب انتخابية أمريكية، وليس كتجاوب مع ردود الفعل التي كان يفترض أن تشكّل تحديات أو تهديدات ل"إسرائيل" ومستقبلها استراتيجياً مثلًا.
ثمة أطروحات وقراءات عربية وفلسطينية متباعدة أو متقاربة، لكنها لا تزال لا تصب في استراتيجية واحدة، حيث أن الطروحات لا تزال بين من يتمسك بالدبلوماسية والتفاوض سبيلاً وحيداً، وبالتالي ربما يصل به الحال إلى التكيّف مع التطبيق للضمّ مع التحفّظ، وبين من يرى المواجهة لوقف هذا القرار وإفشاله ولكن دون التوصل بعد إلى الوسائل الحقيقية الفاعلة مثل المواجهة الشعبية الفلسطينية المباشرة مع الاحتلال في كل فلسطين، أو التحركات العربية الضاغطة على الحكومات لاتخاذ إجراءات فاعلة مثل إلغاء المعاهدات أو تجميدها وقطع العلاقات أو وقفها ووقف عمليات التطبيع ...الخ.
وبعد التحليل التفصيلي لقرار الضمّ في ضوء "صفقة القرن" والاطلاع على تقديرات العديد من الخبراء فإنّ الخيار القادر على لجم "إسرائيل" ووضع حد لها هو "خيار المواجهة" للمنع والإفشال بكل متطلباته الشعبية والرسمية، وذلك في حال توفر خطة عمل منسقة تقوم على أساس وحدة وطنية للمواجهة، خصوصاً فلسطينياً وأردنياً، وبالتالي عربياً.
وتشمل المواجهة طبعاً الجوانب القانونية والدبلوماسية والسياسية والإعلامية والفكرية وغيرها، لكنها تهدف إلى منع التطبيق ووقفه، ولجم "إسرائيل" عن التفكير بقلب الطاولة على الفلسطينيين والعرب بمثل هذا القرار، حيث أن خطة المواجهة يفترض أن تحقق هذه النتائج، ما يلزم أن تتعامل بالوسائل والآليات اللازمة لإنجاز هذا الهدف.
وعلى صعيد الدور المطلوب من المحيط العربي لإسناد هذه السياسة المفترض تثبيتها فلسطينيًا وأردنيًا فثمّة الكثير مما يمكن القيام به، من أهمّ ذلك: تبنّي الموقف الأردني والفلسطيني الرافض للخطة والعمل على إفشالها ومنع تطبيقها فعلاً لا قولاً، وتوفير الإسناد والدعم اللازم اقتصاديًا وسياسيًا للأردن وفلسطين للصمود أمام الضغوط المتوقعة، والانتقال بالسياسة العربية من ثقافة وفلسفة إدارة الصراع إلى فلسفة حسم الصراع ووضع حد للمشروع الصهيوني.
ويلزم لنجاح هذه السياسات وقف كافة برامج وإجراءات التطبيع العلني والسري مع "إسرائيل" وتجميد الاتفاقات والمعاهدات، والضغط على الولايات المتحدة لممارسة دور معطل للقرار الإسرائيلي في ظل خلاف داخل الإدارة الأميركية وفي البيئة الانتخابية أيضاً، إضافة إلى بعض الخلافات في الحكومة الإسرائيلية سواء على التوقيت أو الحجم والشكل أو المراحل، والتحرك الدولي المشترك على مختلف المستويات لمحاصرة القرار الإسرائيلي وتوسيع دائرة الرفض والإدانة والسعي لاستصدار قرارات أممية ومواقف دولية فردية وجماعية من الاتحاد الأوروبي أو الاتحاد الأفريقي وهكذا لمقاطعة "إسرائيل" إذا أقدمت على تطبيق قرارها بالضمّ من جانب واحد.
وعلى الصعيد الداخلي، اتخاذ سياسات جديدة أساسها السماح بانطلاق الدور الشعبي في حملات المقاطعة للاحتلال ووقف أي أعمال تجارية وتبادلات دبلوماسية أو أمنية معه، وتشكيل هيئة وطنية موحدة في كل قطر عربي للقيام بالفعاليات السياسية والشعبية، وتوفير الغطاء السياسي والقانوني لنضال الشعب الفلسطيني ومقاومته، والمساهمة الفاعلة في إنهاء حالة الانقسام الفلسطيني وعدم الضغط على الأطراف ليبقى الانقسام، وتقديم الدعم اللازم لإنجاح تحقيق الوحدة الفلسطينية بعيداً عن الحسابات الأيديولوجية أو المصلحة الأنانية لكل دولة عربية على حدة أو كل فصيل فلسطيني على حدة، والانتقال عربيًا من تغذية الانقسام الفلسطيني لمصالح آنيّة أو أيديولوجية جامدة إلى العمل على إنهائه وتشجيع الأطراف الفلسطينية على ذلك.
وخلاصة القول: إن قرار مواجهة القرار الإسرائيلي وإفشاله ومنع تطبيقه ممكن بالاستناد إلى نقطة ارتكاز فلسطينية وباستراتيجية عربية مساندة وبقوة وجديّة.