شكّل الطرح الإسرائيلي بالتهديد بالضمّ لأراضٍ فلسطينية محتلة مؤخّرًا صدمة كبيرة للرأي العام الدولي المؤيد للسلام في الشرق الأوسط، وأدانت العديد من الدول أو تحفّظت على التصريحات الإسرائيلية بهذا الخصوص، وتشكل هذه التهديدات استرجاعًا للخلفيات الفكرية والسياسية والأيديولوجية للأحزاب اليمينية المهيمنة على المشهد السياسي الإسرائيلي منذ عقدين، والتي لا تؤمن بأي حقّ للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967 ناهيك بالأراضي المحتلة عام 1948.
ورغم الجهود التي بذلتها (إسرائيل) في دعايتها الإعلامية والسياسية بأنّ العرب لا يريدون السلام في عقول المجتمع الغربي، وجزء من الدولي والأفريقي.
غير أن هذه التهديدات وفّرت فرصة ثمينة للعرب لمواجهة (إسرائيل) وأفكارها العنصرية الاستعمارية المتطرفة، وممارساتها العملية اليومية لأعمال الإرهاب من جهة، وللمصادرة ولهدم البيوت والاعتقالات التعسفية ضد الفلسطينيين من جهة أخرى، سواء على يد العصابات المنظمة من المستوطنين بحماية شرطة الاحتلال، أو من قبل القوات الإسرائيلية المنتشرة في كل مناطق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، ناهيك عن الممارسات العنصرية المشرّعة بالقوانين الإسرائيلية الظالمة ضد الأماكن المقدسة الفلسطينية، خصوصًا في مدينتي القدس والخليل، وضد الفلسطينيين الذين يعيشون تحت سيادة الدولة الإسرائيلية منذ عام 1948 رغم أنهم يحملون جنسيتها.
لكن اللافت للانتباه أن الدول العربية لم تقُم بجهد ذي بال على هذا الصعيد، بل لاذ معظمها بالصمت، وربما لم يمانع بعضها سرًّا لاعتبارات مصلحية ضيقة، ولذلك فإن إدراك مخاطر وخلفيات هذه التهديدات التي تحاول تكريس الأمر الواقع الذي تصادر فيه (إسرائيل) عمليًا أكثر من 85% من منطقة الغور وشمال البحر الميت المحتلة عام 1967، وتضعها بتصرف عصابات المستوطنين، فيما تحرم سكانها الفلسطينيين من الاستفادة من معظم هذه الأراضي الخصبة للزراعة.
وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد أعلن في 10 أيلول/ سبتمبر 2019 عزمه ضمّ أراضي غور الأردن وشمال البحر الميت إذا فاز في انتخابات الكنيست المقررة في 17 أيلول/ سبتمبر. ورغم أن هذا الإعلان جاء في أجواء انتخابية يسعى فيها نتنياهو إلى كسب مزيد من الأصوات تمكّنه من تصدّر صناديق الاقتراع وتشكيل حكومة جديدة، فإن موضوع ضمّ الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عمومًا، وغور الأردن وشمال البحر الميت خصوصًا، له خلفياته السياسية والأيديولوجية التي يتناولها هذا التحليل، والمتعلق بالمجتمع الإسرائيلي الذي يهيمن عليه اليمين، وبالحكم في (إسرائيل) الذي يسيطر عليه اليمين وتوجهاته المتطرفة أيضًا.
تمتد منطقة الغور وشمال البحر الميت المقصودة على مساحة 1,6 مليون دونم، بمحاذاة الحدود الأردنية، وتشكّل ما يقارب 30% من مساحة الضفة الغربية، وغالبية سكانها من الفلسطينيين، وفي عام 2016 كان يعيش في المنطقة ما يقرب من 76 ألف شخص أغلبيتهم الساحقة من الفلسطينيين بنسبة تصل إلى 84%، بينما كان فيها حوالي 16% من المستوطنين اليهود في معازل استيطانية أقيمت بالقوة على أراضٍ مصادرة من قبل الاحتلال.
تمثِّل الرغبة الإسرائيلية بضم غور الأردن وشمال البحر الميت أحد عناصر الأيديولوجيا التي تتبناها الأحزاب السياسية اليهودية في تعاملها مع ملف الأرض الفلسطينية والديموغرافيا والأمن منذ عقود طويلة.
ففي عام 1967 احتلت (إسرائيل) الضفة الغربية وقطاع غزة، وانقسمت النخبة الحاكمة في (إسرائيل) حول كيفية التصرف في هذه الأراضي، حيث رأى فريق منها أن تُضم تلك الأراضي إلى سيادة (إسرائيل)، في الوقت الذي عارض فريق آخر فكرة الضمّ، ورأى أن تُستغل الأراضي لاستبدالها في أيّ عملية تسوية سياسية مستقبلية.
وكان يخشى الفريق الثاني من التهديد الديمغرافي الذي تشكّله الضفة الغربية وقطاع غزة لما يعرف بيهودية الدولة، وحسب ليفي أشكول رئيس الوزراء في ذلك الوقت (حزب ماباي- العمل) (1963- 1969)، فإن المشكلة في التعامل مع هذه الأراضي هي أنّ (إسرائيل) تريد "المهر وليس العروس"، أيّ أنها تريد أرضًا دون سكان!
وبذلك شكّلت فكرة ضمّ غور الأردن أحد مطالب مشروع "آلون" الذي اقترحه وزير (الجيش) يغآل آلون (حزب ماباي) على مجلس الوزراء الإسرائيلي في تموز/ يوليو 1967 مباشرة بعد انتهاء حرب حزيران/ يونيو عام 1967، وكان هذا المشروع جزءًا من التفكير بفرض تسوية إقليمية تهدف، وفق توصيفات الاقتراح، إلى تحقيق ثلاثة أهداف مركزية، هي: إقامة حدود أمنية لـ(إسرائيل) بينها وبين الأردن، وتخلّص (إسرائيل) من إدارة شؤون شريحة سكانية عربية قاطنة في هذه الأراضي وخدماتها المختلفة بهدف الحفاظ على الصبغة اليهودية للدولة (قوميًا ودينيًا)، وتحقيق ادّعاء "الحق التاريخي" للشعب اليهودي في "أرض إسرائيل" (وهي فلسطين العربية) لليهود فقط!
وقد حدّد المشروع آنف الذكر منطقة غور الأردن من نهر الأردن الممتدة حتى المنحدرات الشرقية لجبال نابلس وجنين غربًا لتبقى تحت السيادة الإسرائيلية، وهكذا أيضًا بالنسبة لمنطقة القدس وضواحيها ومنطقة الخليل. أما بقية أراضي الضفة الغربية المحتلة فتعاد إلى السلطة الأردنية مع فصل تامٍّ بينها وبين هذه الأراضي، وبالتالي إقامة معبر بين هذه الأراضي والأردن يمرّ في ضواحي مدينة أريحا.
وقد أثار المشروع في حينه معارضة شديدة من قبل قطاعات إسرائيلية واسعة بما فيها الحكومة، ولم يُصادَق عليه داخل مجلس الوزراء ولا خارجه، ولكن المتتبع للسياسة الحكومية الإسرائيلية منذ ذلك الوقت وحتى اليوم يُلاحظ أنّ مخططات الحكومة إزاء سياسة الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية والقدس تجاوبت بشكل أو بآخر مع ما ورد في هذا المشروع.
فقد دأب حزب العمل على إدراج مشروع آلون كجزء من رؤيته السياسية لحل الصراع الإسرائيلي- العربي- الفلسطيني، والذي عبّر عنه إسحق رابين رئيس الوزراء (لأكثر من فترة كان آخرها 1992-1995 عند توقيع اتفاقات السلام مع الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية) بتكرار قوله: "يجب أن تصبّ مساعي (إسرائيل) في منع قيام كيان فلسطيني مشاطئ للبحر الميت، ومنعه من التماسّ الجغرافي مع أي رقعة أرض عربية أخرى"، وخصوصًا مع أيّ من الأردن أو مصر.
ومن الملاحظ أن مطلب ضم الغور الذي هدَّد به نتنياهو أصبح اليوم مُدرجًا على البرامج الانتخابية لكلِّ التيارات السياسية الإسرائيلية اليمينية المسيطرة منذ سنوات وتيارات وسط اليمين واليسار المنافس أيضًا؛ فهذا بيني غانتس، رئيس حزب "أزرق- أبيض" ومنافس نتنياهو، يلتزم في برنامجه وتصريحاته بالاحتفاظ بالغور كجزءٍ لا يتجزأ من دولة (إسرائيل).
والأهم من تصريحات نتنياهو أو رابين أو غانتس أو غيرهم من القادة السياسيين الإسرائيليين هو ما يجري على الأرض منذ عام 1967؛ فالجانب الإسرائيلي حافظ على وتيرة الاستيطان اليهودي في الضفة والقدس، وأزال وقائع وخلق وقائع جديدة على الأرض، علاوة على أن المجتمع الإسرائيلي لا يؤمن بـ"عملية السلام" مع الفلسطينيين والعرب للتوصل إلى تسوية سياسية، خصوصًا بعد الانزياح الكبير في مركز السياسة الإسرائيلية باتجاه اليمين واليمين المتطرف، حيث أصبحت الحكومات الإسرائيلية تمثّل مصالح المستوطنين اليهود في الضفة الغربية، ما أفضى إلى تراجع فرص فكرة حلّ الدولتين بانتهاء مكان وجغرافية الدولة الفلسطينية عمليًا.
والواقع أنه لا يوجد أحد في المجتمع الإسرائيلي يمكن التحدث إليه حول إقامة دولة فلسطينية أو إنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، فكل ما تسعى إليه (إسرائيل) اليمينية (المجتمع والنظام السياسي) هو التوسع على حساب الفلسطينيين وقضم أراضيهم والتفكير بحلٍّ على حساب الأردن فيما يعرف بالوطن البديل أو الكونفدرالية للسكان الفلسطينيين مع الدولة الأردنية.
وتشير نتائج الانتخابات الإسرائيلية التي جرت مؤخرًا في أيلول/ سبتمبر 2019، إلى أن مختلف الخيارات والسيناريوهات المطروحة لتشكيل الحكومة الجديدة سوف تعزّز التوجهات اليمينية واليمينية الدينية والمتطرفة في (إسرائيل)، وستستمر دولة الاحتلال بمصادرة الأراضي ودعم فكرة التوطين اليهودي في الضفة الغربية والقدس، بحيث تتلاشى أي فكرة عملية ممكنة التنفيذ لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس، أي القضاء على ما يسمى "بعملية السلام" المتعثرة أصلًا منذ عام 2000 والتي أُسِّس لها باتفاق أوسلو عام 1993، علمًا بأن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من حينها حتى عام 2019 لم تلتزم بأكثر من 13% مما يفرض عليها (إعلان المبادئ في أوسلو 1993 وما تبعه من اتفاقيات حتى عام 2000)، وتتنكر لـ 87% منها، في حين التزم الفلسطينيون بأكثر من 85% من التزاماتهم، والـ15% المتبقية مرتبطة عمليًا بالتزام (إسرائيل) ببقية الالتزامات، وخصوصًا ما يتعلق بإطلاق المفاوضات النهائية للتوصل إلى حل الدولتين والتي افترض الاتفاق أن تبدأ عام 1998، وهي فعليًا لم تبدأ حتى اليوم.
ويؤكد التحليل الموضوعي أن ضمَّ الأراضي الفلسطينية في الغور أو غيرها، وتوسيع الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية والقدس، لن ينهي الصراع القائم، بل سيزيده اشتعالًا، وسيؤثر بشكل بليغ على أي توجهات للتسوية السياسية بين الطرفين مستقبلًا، ما يعني أن السياسة الإسرائيلية المتطرفة إزاء الفلسطينيين تشكّل دائمًا حافزًا مهمًّا للمقاومة الفلسطينية وإشعال المواجهات مع الاحتلال والمستوطنين اليهود المسلحين، وليس إلى الاستسلام للوقائع التي تفرضها قوة الاحتلال العسكري بالقوة في الأراضي المحتلة، وفق التجربة العملية المشاهَدَة طيلة 71 عامًا، منذ إقامة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية عام 1948.
ولذلك فإن إدراك الأطراف الإقليمية والدولية لهذه الحقائق يفسِّر لها أسباب تعثر عملية السلام من جهة، كما يفسِّر لماذا يُعدّ أفق السلام مع (إسرائيل) مسدودًا بالعقلية اليمينية والأمنية والاستيطانية المتطرفة التي تسيطر على المجتمع والدولة معًا، وإنَّ خيارات الفلسطينيين أصبحت تنحصر في مقاومة الاحتلال شعبيًّا وسياسيًّا وبالقوة حيثما أمكن، الأمر الذي يعدُّ مبررًا وفق القانون الدولي وتجربة مسار التسوية مع (إسرائيل) وسياساتها العدوانية المعلنة، وسيرتها برفض الالتزام بالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالصراع العربي- الإسرائيلي منذ تأسيسها وحتى اليوم.
وهو ما يفرض على المجتمع الدولي والدول العربية والإسلامية اتخاذ سياسات جديدة لمواجهة التطرف والتعنّت في الحكومات الإسرائيلية من جهة، وفي إنصاف الشعب الفلسطيني ورفع مظلمته وإنهاء احتلال أرضه وعودة لاجئيه، وتقديم الدعم السياسي والقانوني والدفاع عن نضاله بكل السبل من جهة أخرى، وممارسة الضغوط على الموقف الأمريكي للضغط على (إسرائيل) ولجم صَلَفها، بدل دخول السباق معها في مخالفة القانون الدولي وتعميق الظلم والعدوان على الشعب الفلسطيني وحقوقه، والذي مثّل أكثرُه ظلمًا ما فعلته وتفعله الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة دونالد ترامب.