تعودنا خلال الفترة الماضية أن يبدأ الاحتلال بشن الحرب على غزة كلما رأى ذلك ضرورياً لتحقيق أمنه، وكانت غزة تتصدى للعدوان بكل بسالة، وبعد أن يشعر العدو أنه حقق غايته ومراده من الحرب يطلب تدخل الوسطاء لوقف إطلاق النار.
عندما كان الاحتلال يبدأ الحرب في كل مرة، كان يأخذ قراره هذا معتمداً على ما يملكه من آلة عسكرية ونفوذ سياسي وقوة اقتصادية تمكنه من اتخاذ هذا القرار بثقة عالية، ذلك أن قرار الحرب ليس بالقرار الذي تُضمن نتائجه دائماً، وهو من أخطر القرارات التي قد تتخذها أي دولة على وجه الأرض، لأنه ببساطة في حالة الخطأ في اتخاذ هذا القرار فذلك يعني أن سيادة الدولة قد تتعرض لخطر الانتقاص أو الزوال، وقد يتعرض إقليم الدولة للاحتلال، وكذلك قد تتعرض مصالح الدولة الاقتصادية للخطر، وما يعنيه كل ذلك من خطر محدق على المستقبل الجيوسياسي لأي دولة، ولذلك فإن قرار الحرب يمثل خطرا استراتيجيا وجوديا على أي دولة قد لا تتخذه في الوقت والزمن المناسب.
(إسرائيل) كما ذكرنا تعودت أن تتخذ قرارات الحرب بجرأة شديدة، وذلك أن أجهزة استخباراتها كانت تمدها دائماً بالمعلومات التي تؤكد لها ضعف خصمها الشديد تجاهها، فضلاً عن كشف كل نقاط ضعفه سواء العسكرية أو الأمنية أو الاقتصادية، الأمر الذي كانت تستغله (إسرائيل) أسوأ الاستغلال، متجاوزة القوانين والأعراف والاتفاقيات الدولية في سبيل الوصول إلى مبتغاها على الطريقة الميكافيلية.
المقاومة الفلسطينية هي التي بدأت الحرب هذه المرة، صحيح أن الظرف الذي حدث في حي الشيخ جراح في القدس واقتحام المسجد الأقصى من قبل المستوطنين كان الدافع الأهم في بدء الحرب، لكن كان بوسع المقاومة أن تتريث أو أن تدع الاشتباك الشعبي يتوسع دون تدخل عسكري من جانبها، ولكن أن تبدأ المقاومة في إطلاق النار على العدو بعد أن تصدر له تحذيراً من رأس قيادة الحركة السياسية بعدم اللعب بالنار، ثم يتبعه تحذير من رأس قيادة المقاومة العسكرية وعلى لسان قائد أركان المقاومة نفسه، فهذا يعني أن المقاومة درست الخيارات بعناية ولديها من المعلومات الاستخبارية والقدرة العسكرية ما يمكنها من اتخاذ قرار الحرب وقد كان.
انعكاس هذا الأمر (أقصد اتخاذ قرار الحرب من المقاومة ضد العدو) شكل للعدو صدمة لم يكن يتوقعها، لأن ذلك يعني بكل بساطة انتقال عنصر المبادأة من العدو للمقاومة أو على الأقل وجود عنصر المبادأة لدى الطرفين بنفس المستوى، بما يمثله ذلك من تآكل قوة الردع للعدو لحدها الأقصى، وتزايد قوة ردع المقاومة لحدها الأعلى الأمر الذي مكنها من اتخاذ قرار الحرب ابتداءً كما أسلفنا.
هذا القرار الذي اتخذته المقاومة وضع العدو أمام خيارات صعبة، تتمثل في وجوب الرد على النار التي انطلقت من غزة بشكل ينهي وجودها تماماً، أو على الأقل يسكتها لوقت طويل جداً، وذلك كي يعيد العدو حالة الاستعلاء الصهيوني لسابق عهدها ويَجْبُر المعادلة التي كُسرت، وإلا فإن مستقبل الدولة بالنسبة للعدو قد أصبح في خطر، في ظل تعدد الجبهات التي يحارب عليها العدو، وما يمثله خطر انتقال عدوى المبادأة للجبهات الأخرى، سواء جبهة الجنوب اللبناني أو الجبهة السورية وأخيراً جبهة إيران، التي كانت (إسرائيل) حتى وقت قريب تضع الخطط لمهاجمة المفاعلات النووية الإيرانية لتمنع إيران من إكمال مشروعها النووي، محاولة جبر المعادلة التي كسرت دفع العدو إلى استخدام النار بكثافة مفرطة، وصلت الي حد استخدام 160 طائرة في غارة واحدة على منطقة شمال غزة التي لا تتجاوز مساحتها عشرة كيلومترات مربعة، في محاولة لإحداث حالة من الصدمة والرعب تدفع المقاومة لرفع الراية البيضاء، ولكن كانت المفاجئة للعدو برد المقاومة بكثافة نارية لم يعهدها، الأمر الذي أفقد العدو ميزة أخرى كان يعتمد عليها اعتمادا كاملاً في كل حروبه وهي الكثافة النارية الهائلة، التي تمكنه من اسكات النار المقابلة بسرعة وبشكل حاسم.
بعد مرور حوالي عشرة أيام على بدء الحرب يحاول العدو الوصول إلى صورة نصر ينهي بها هذه الجولة، ولكنه لا يستطيع الحصول عليها، حتى وصل به الأمر إلى أن يطلب من الوسطاء أن تتوقف المقاومة عن إطلاق النار أولاً، ثم يتوقف هو، وذلك لحفظ ماء وجهه، إذ إن المقاومة هي التي بدأت إطلاق النار وهي التي يجب أن تبدأ بالتوقف، ولكن المقاومة ترفض منحه حتى هذه الصورة البسيطة من شكل النصر وتصر على التزامن في وقف النار مع تحقيق شروط المقاومة التي كانت سبب بدء الحرب.
هذه الجولة أدخلت الصراع مرحلة جديدة جعلت استقرار الكيان على المحك، إذ يمكن في أي لحظة أن تشتعل أي جبهة من الجبهات في أي وقت بقرار من قوى الممانعة والمقاومة، دون تخطيط أو توقع من العدو وفي أي زمان قد لا يناسبه وما يمثله ذلك من خطر داهم ودائم على مشروع وجوده في المنطقة.