أكثر ما يميز هذه المواجهة مع العدو الصهيوني هو أنها من أجل القدس، وهي -بالتأكيد- العنوان الأكثر أهمية في القضية الفلسطينية. ولذا فإن حالة الإجماع الوطني في الجبهات الفلسطينية الأربع، القدس وغزة والضفة والداخل المحتل؛ لم تحدث منذ عقدين على الأقل. ولعل الإعلان عن الإضراب الشامل يوم الثلاثاء 18 مايو 2021 في الضفة والداخل المحتل عام 1948، وما يتضمنه من دعوات للتعبير عن التضامن مع القدس وغزة من خلال مسيرات ووقفات شعبية، يعتبر يوماً وطنياً لم تشهده فلسطين منذ انتفاضة الحجارة عام 1987 وانتفاضة الأقصى عام 2000.
إن حالة الاشتباك مع الاحتلال من الداخل تمثل انهيارا لنظرية التعايش بين العرب واليهود، والتي بنت عليها (إسرائيل) أحلامها بإمكانية نجاح التطبيع مع الدول العربية. وبات من الواضح أن عنصرية الاحتلال في التعامل مع العرب في الداخل المحتل على أنهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة لسبعة عقود، قد وصلت ذروتها مع قانون يهودية الدولة الذي أقره الكنيست الإسرائيلي في يوليو 2018.
ذلك القانون الذي منح أي يهودي من أي مكان في العالم الحق في أن يحصل على الجنسية الإسرائيلية كونه من الديانة اليهودية فقط! في الوقت الذي يمنع فيه أهل الأرض وأصحابها الأصليين من السكان العرب من حقوقهم المدنية، بل ويتم التمييز ضدهم في الخدمات الصحية والاجتماعية والتعليم. وهذا ما يفسر سرعة انتشار المواجهات مع الشرطة الإسرائيلية في كل الجغرافيا العربية، في مدن وقرى وبلدات الشمال والجنوب والوسط، مع تصاعدها لتشمل حرق مراكز شرطة إسرائيلية والاشتباك مع المستوطنين الذين حملوا السلاح، حيث تم قتل عربي في مدينة اللد بسلاح يهودي.
تلك الشرطة التي يشعر العرب أنها لم تحمهم من مافيات الجريمة المنظمة، وعصابات المخدرات، التي تعمل -كما يقولون- بتنسيق مع ضباط الشرطة وبدعم من المنظمات اليهودية المتطرفة، التي تحظى برعاية أعضاء كنيست وحاخامات كبار.
إن تدخل الولايات المتحدة لإنهاء الحرب على غزة يأتي في سياق حماية (إسرائيل) من عنصريتها، بعد أن فشل جيش الاحتلال في تحقيق نصر عسكري يمكن تسويقه للرأي العام، وفقدانه لهيبته أمام قوة المقاومة الفلسطينية وتطورها النوعي عسكرياً وعملياتياً. كما أنه ثمة خشية أمريكية واضحة من أن الفشل الإسرائيلي سيؤثر في سياسات إدارة بايدن في حسم ملفات استراتيجية في المنطقة، مثل ملف النووي الإيراني والتطبيع العربي. فالرئيس بايدن وقد كان نائباً للرئيس أوباما 2009-2017؛ يدرك أن البيئة السياسية لا تسمح بأي إنجاز على صعيد القضية الفلسطينية في ظل عدم الاستقرار الحكومي في "إسرائيل” وضعف فريق التسوية الفلسطيني.
مع كل يوم زيادة في أيام العدوان على غزة، تزداد موجهة الانتقاد لـ(إسرائيل) على سلوكها العدواني دون تحقيق هدفها الذي أعلنته في بداية المعركة، وهو ردع المقاومة الفلسطينية "لسنوات طويلة" عن تهديد العمق الإسرائيلي أو قصفها من غزة. هذه الانتقادات من داخل (إسرائيل) تشمل كتاب ومحللين سياسيين وعسكريين سابقين، يرون أن الحكومة والجيش يرتكبون حماقة سياسية ستكلف (إسرائيل) الكثير على مستوى الردع وترميم الجبهة الداخلية، دون تحقيق أي نصر يمكن ترويجه داخلياً أو خارجياً.
بالإضافة إلى الانتقادات الغربية التي تقول بوضوح أن خطأ الحكومة الإسرائيلية في معالجة قضية حي الشيخ جراح وباب العمود وحرية الصلاة في المسجد الأقصى، هو ما أدى إلى تفاقم الأمور إلى هذا الحد، الذي دفع بغزة للدخول على خط المواجهة، بعد أن تم تأجيج الرأي العام العربي في الداخل.
إن هذه المواجهة الشاملة مع الاحتلال الإسرائيلي "سيف القدس" ستكون لها تداعيات ونتائج مهمة على صعيد دعم المقاومة جماهيرياً وعسكرياً باعتبارها قادرة على تقويض استقرار (الدولة الصهيونية)، وعلى زيادة الروح الوطنية المطالبة بمزيد من الحقوق العربية في الداخل بما يزيد من حالة الشرخ في الأمن القومي الإسرائيلي، كما أنها ستمنح أهل القدس شعوراً وطنياً بالحماية المتصلة بقوة غزة العسكرية والجماهير في الضفة والداخل، وأخيراً على صعيد الضفة التي أصبحت على مفترق طرق لمغادرة أوهام السلطة والتنسيق الأمني، لتتسلم زمام المبادرة في قيادة مستقبل الصراع والمواجهة مع الاحتلال، وصولاً للتحرير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.