كتب الخليفة عثمان بن عفَّان في وصيته: "إن القسطنطينية تفتح من قِبَل الأندلس، وإنكم إن فتحتم ما أنتم بسبيله؛ فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر".
كان هدف الفتوح الإسلامية في شمال إفريقيا الوصول إلى الضفة المقابلة، إلى أوروبا؛ لتمهِّد الطريق إلى القسطنطينية، فوصلت إلى الأندلس ودخلت فرنسا لتتوغل عبرها إلى أوروبا، لكن ذلك الحلم تبدد قطعيًّا بهزيمة المسلمين في معركة بلاط الشهداء.
موقعة بواتييه أو بلاط الشهداء سميت كذلك لكثرة الشهداء، اندلع القتال بين الجيشين مدة تسعة أيام لا غالب ولا مغلوب، وفي اليوم العاشر نشبت معركة هائلة، حتى بدأ الإعياء على الفرنجة ولاحت تباشير النصر للمسلمين، ولكن حدث أن التفت فرقة من فرسان العدو إلى الخلف حيث معسكر الغنائم؛ فاضطربت الصفوف، وانفتحت ثغرة نفد منها الفرنجة.
الزمان: عام 114ه.
المكان: منطقة تسمى البلاط (فيها قصر قديم مهجور) بين مدينة بواتييه ومدينة تور في فرنسا.
أطراف الصراع: خمسون ألفًا من المسلمين تحت قيادة عبد الرحمن الغافقي والي الأندلس، مقابل أربعمائة ألف من الفرنجة ما بين محاربين ومرتزقة وهمج وأمراء وعامة وعبيد بقيادة شارل مارتل أحد القادة العسكريين للفرنجة.
بقيت عيون المسلمين ترنو صوب العمق الأوروبي بعد فتح الأندلس، وعندما تولى عمر بن العزيز الخلافة واختار السمح الخولاني لولاية الأندلس، تجددت في عهده الفتوحات بصورة منظَّمة وجدية إلى ما وراء جبال البرت، الفاصلة بين إسبانيا وفرنسا، بعد أن توقفت نحو 7 سنوات، بعد فتح الأندلس.
فتح الخولاني مقاطعة سبتمانيا جنوب شرق فرنسا، بمدنها السبع الكبرى، وجعلها ثغرًا أقام عليها حاكمًا مسلمًا، وقاعدة عسكرية لمواصلة الفتوحات، ولكنه استشهد في معركة تولوز بطرسونة التي ارتقى فيها شهداء كثر، فتسلم قيادة الجيش عبد الرحمن الغافقي، الذي جمع شتات الجيش، وقاد عملية انسحاب بارعة إلى القاعدة الإسلامية المنيعة في سبتمانيا، ومنها عاد إلى الأندلس.
لم تكسر تلك الهزيمة القاسية شوكة المسلمين، بل مهَّدت لما بعدها من حملات.
وبعد استشهاد الخولاني شهدت الأندلس موجات فتنة وتمرد، لم يستطع إمساك زمام الأمور فيها إلا عبد الرحمن الغافقي عام 112ه، الذي وليَّ عليها ووحَّد الناس تحت راية واحدة، وجمعهم في جيش كبير وانطلق بهم إلى فرنسا ليستكمل الفتوح، لعل القسطنطينية تكون المحطة التالية، انطلق الغافقي في البداية يقوي الثغور ويقضي على الثورات فيها ويحصنها، ودخل مناطق في أقصى غرب فرنسا لم يدخلها السابقون، فاتحًا المدينة تلو الأخرى، حتى وصل إلى أقطانية وفتحها، فهرب دوقها مستنجدًا بشارل مارتل الذي جمع جيشًا كبيرًا لمواجهة المسلمين وحماية النصرانية.
وكان مكمن الخطر في قلوب جيش عبد الرحمن الغافقي يحمل نذير الهزيمة وبذور الهوان! إنها القلوب المعلقة بالدنيا، المفتونة بالغنائم الضخمة التي غنموها في طريقهم، إلى درجة أن نادى بعضٌ بالعودة إلى الأندلس لتأمين هذه الغنائم حتى لا يأخذها الفرنسيون، كما تجددت العصبيات بين العرب والبربر، بسبب الغنائم الكثيرة التي لم توزع!
ولكن عبد الرحمن الغافقي جمع الناس قائلًا: "ما جئنا لأجل هذه الغنائم، ما جئنا إلا لتعليم هؤلاء الناس هذا الدين، ولتعبيد العباد لرب العباد".
استدرج شارل مارتل جيش المسلمين المتحصنين في تور إلى سهل غرب نهر اللوار، وتقدم شارل بقواته ونزل في مواجهة جيش الغافقي استعدادًا للمعركة، اندلعت مواجهات شرسة استمرت قرابة 9 أيام شهدت فيها موجات مد وجذر بين الجيشين، غير أنها لم تؤدِ إلى انتصار ساحق لأي من الطرفين، وبينما كان يمني المسلمون أنفسهم بالنصر في اليوم العاشر، اخترقت فرقة من فرسان جيش مارتل صفوف المسلمين، وقسمت الجيش إلى قسمين ووصلت إلى موضع الغنائم!
أُصيب جيش الغافقي بالارتباك، وفشل في إعادة تنظيم صفوفه، وكان لذلك أسوأ الأثر في نفوس الجنود الذين اشتد بينهم الخوف والفزع، حاول الغافقي أن يعيد النظام ويرد الحماس إلى نفوس الجيش، لكنه ارتقى شهيدًا، وانسحب جيشه نحو سبتمانيا لينتصر جيش الفرنجة ويلوذ بالغنائم المبعثرة دون جند!
وأُسدل ستار حلم دخول قارة أوروبا في الإسلام!