فلسطين أون لاين

خبايا "المطبخ الرمضاني" داخل الأسر

...
سوزان العويوي
الخليل- غزة/ مريم الشوبكي:

رمضان في الأسر بلا ملامح، تحاول الأسيرات رسمها على جروحهن، وتناسي الذكريات التي تعشعشت في عقولهن وقلوبهن، والحنين إلى لمة عوائلهن وأبنائهن حولهن على مائدة واحدة.

رزنامة يوميات صائم ما بين المواعظ ومواعيد الصلاة والإفطار والنصائح كتبتها الأسيرة المحررة سوزان العويوي بخط يدها وعلقتها على حوائط الزنازين، عسى أن تتمكن الأسيرات من إحياء أجواء رمضان لكسر الروتين اليومي القاتل لأيامهن التي يشبه بعضها بعضًا.

سوزان من مدينة الخليل المحتلة أمضت سنة كاملة في الأسر، كان يوماه الأول والأخير في رمضان، تركت خلفها ولدين وبنتًا، أمضت 10 أيام من الشهر الفضيل في أقبية التحقيق لا تعرف فيها موعدًا لا لصلاة ولا لصيام، ومع ذلك كانت تجتهد وتحاول أداء عباداتها.

تعود سوزان بذاكرتها إلى أيام يرفض عقلها ولسانها تذكرها، ولكن لمرارة ما تعيشه الأسيرات من بعدها تتمنى أن يعرفها كل إنسان ذو ضمير.

تقول سوزان لصحيفة فلسطين: "رمضان في التحقيق كسائر الأيام، كان السجان يتعمد تأخير وجبات الطعام إلى درجة أنني لم أكن أعرف موعد الإفطار ولا السحور، ولكن بعد انتهاء التحقيق انتقلت إلى سجن النساء".

بكلمات نازفة تضيف: "كان في القسم 47 أسيرة منهن 22 أمًّا وأخريات قاصرات، هذا الشهر يقلب عليهن المواجع، يحاولن أن يعشن جو العائلة وتعويض غياب آبائهن وأولادهن عنهن".

استطاعت سوزان وبعض الأسيرات الضغط على إدارة السجن لتفطر في كل يوم رمضاني غرفتان على مائدة إفطار واحدة، كانت لا تتعدى مدتها ربع ساعة، حتى يعدن إلى غرفهن وتغلق الأبواب الحديدية بالأقفال.

كان الأكل الذي يقدم لهن في السجون رديئًا رائحته الكريهة لا يمكن أن تطيقها النفس، طعمها لا يمكن أن يقدم للآدميين، لذا كانت بعض الأسيرات يشترين بمخصصاتهن الشهرية في الكانتينا طعامًا يعوضهن بعض الشيء، رغم أن أسعاره باهظة جدًّا وتشكل عبئًا ماليًّا عليهن، التمر للإفطار، والجبنة البيضاء لتناولها على وجبة السحور.

غرفة سوزان كانت تضم سبع أسيرات، منهن اثنتان تتوليان أمور الطبخ، منهن من استطاعت تجاوز الذكريات، أما هي فلم تتجاوز الألم النفسي حينما تتذكر أبناءها وزوجها وأسرتها وهي تقضي ساعات طويلة من يومها في مطبخ بيتها لتعد لهم وجبتي الإفطار والسحور.

توضح أن الأسيرات كن يحاولن صنع حلويات كالكنافة والقطائف لا تمت بصلة لها إلا اسمًا، إذ لا تتوافر المكونات الفعلية لها.

تحاول الأسيرات استحضار وتخيل طعم الحلويات الأصلية لتذوق حلويات الأسر، وكن يحاولن كسر حدة حرارة الصيف ورطوبته العالية التي تخنق زنازين الأسيرات المعتمة السيئة التهوية، فابتكرن وابتدعن حلويات باردة بالألبان والعصير المركز الذي يخفف بالماء.

تبدأ الأسيرات إعداد وجبة الإفطار من العاشرة صباحًا، لكي يتسنى لهن أن ينهينها قبيل الإفطار، فلا وجود للبوتاجاز، وعوضًا عنه يستعملن القرص الكهربائي الذي يعمل عمل "المكواة"، ثم القيام بأعمال تنظيف الغرفة وشطفها بالماء لتهيئة أنفسهن لأداء صلوات المغرب والعشاء والتراويح.

اللحوم النيئة يمنع إدخالها البتة إلى السجن، ولكن كيف تحايلت الأسيرات على هذا الأمر لصنع وجبة يشتهينها؟ تجيب سوزان: "اللحوم كانت تقدم إلينا مطبوخة، الدجاج يغطيه الريش واللحوم عبارة عن قطع كاوتشوك لا يمكن مضغها، ومع ذلك كنا نعيد تدويرها إذ نكثر من المطيبات عليها بعد غسلها بالماء والليمون عدة مرات للتخفيف من كراهة رائحتها، ثم إعادة طبخها مرة ثانية".

الخروب والكركديه والتمر هندي والعرق سوس نعم ينعم بها الناس خارج السجن، لكنه للأسيرات بمنزلة حلم حتى يتحررن، أما عصيرهن الذي يرويهن بعد ساعات طويلة من الصيام فعصير مركز يخففنه بالماء يشبه مذاقه دواء السعال.

ورمضان في الصيف مع الأسر أكثر مأساة، وثمة ما يزيد إعداد وجبة السحور تعقيدًا أيضًا، تروي سوزان: "بعد المغرب تغلق الغرف حتى التاسعة صباحًا في اليوم التالي، لذا نجتهد في المحافظة على صلاحية طعام السحور، كاللبن والجبنة اللذين تتمكن بعض الأسيرات من شرائهما، بتثليج ماء في زجاجات بلاستيكية ثم وضع اللبن والجبن عليها ولفها ببطانية ثم وضعها في صندوق بلاستيكي للمحافظة على برودتها، ليتسنى لنا تناولها على السحور".

والبرنامج الدعوي حاضر في أيام الصيام في سجن الأسيرات، تبين أنهن كن يجتمعن في غرفة واحدة، وفي الغالب غرفتها لأنها الأكبر بين الغرف، حيث يلقين الموعظة قبل أن يخرجن إلى ساحة السجن أربع ساعات، مقابل 20 ساعة يقضينها بين جدران أربعة.

وتشير إلى أن الأسيرات كن يمضين أربع ساعات يتمشين في ساحة السجن لتحريك الدورة الدموية في أجسادهن، التي ينهكها التعب بسب ساعات الجلوس والنوم الطويلة.

العيد في الأسر لا يشبه غيره، تستذكر أن عيد الفطر ثبت وهي في زنزانة التحقيق، حتى تعرف هذه المعلومة جادلها السجانون ثلاث ساعات لتحصل منهم على المعلومات، وتعرف أتكمل صيامها أم لا.

وعايشت سوزان الأسيرات في عيد الأضحى، كانت ساعاته أشد قسوة من أيام الصيام عليهن، "العيد يستنزف كل العواطف"، إذ كن يحاولن لبس الجديد أو الجميل من ثيابهن، ويهنئ بعضهن بعضًا، حتى تأتي الظهيرة ويستسلمن لذكرياتهن.

تعتلي كل أسيرة "برشها" وتتأمل صور والديها وإخوتها، وأخريات صور أبنائهن، والصمت والدموع تكون سيدة الموقف، حتى لا يمكنهن رؤية ولا مهاتفة عوائلهن في العيد أيضًا، ويكتفين باستشعار هذا الأمر بسماع التهاني عبر الإذاعات المحلية.