على الرغم من أن القرار الذي اتخذه الرئيس الفلسطيني محمود عباس بتأجيل الانتخابات التشريعية التي كانت مقررة في الثاني والعشرين من الشهر الجاري، كان متوقعاً، فإن إعلانه كان له وقع الصدمة. ولم يكن الانقسام الحاد في مواقف كل الفصائل الفلسطينية، بل وداخل حركة «فتح» نفسها، إلا مؤشراً إلى واقع الأزمة التي تنتظر السلطة الفلسطينية التي سيكون عليها، قبل غيرها، أن تجيب عن سؤال: ماذا بعد تأجيل الانتخابات التي يعتقد الكثيرون أن قرار التأجيل كان في واقعه قراراً بإلغاء هذه الانتخابات وليس فقط تأجيلها؟
الكثيرون كانوا، ومازالوا، على يقين بأن قرار تأجيل الانتخابات بحجة القدس كان غطاء لخلفيات واقع مؤلم كان الرئيس الفلسطيني حريصاً على الهرب منه، بتأجيله على أقل تقدير، وهو واقع «مطلب التغيير» في الطبقة السياسية، وليس فقط في دائرة صنع القرار داخل الرئاسة الفلسطينية، ومن بينها الرئيس محمود عباس نفسه. هذا الواقع عبَّر عن نفسه من خلال الكثافة على التسجيل للانتخابات بنسبة وصلت إلى 93,3%، وكثافة الترشح للانتخابات، سواء على مستوى القوائم التي بلغ عددها 36 قائمة، إضافة إلى مئات المرشحين الفرديين للتنافس على 132 مقعداً، هي كل مقاعد المجلس التشريعي (البرلمان)، خصوصاً أن 15 قائمة من تلك القوائم تنتمي إلى «حركة فتح»، من بينها قائمة وازنة هي (قائمة الحرية) التي يقودها ناصر القدوة ابن شقيقة الرئيس الراحل ياسر عرفات مع فدوى البرغوثي زوجة القيادي الفتحاوي الأسير مروان البرغوثي الذي يتولى رعاية هذه القائمة.
إذا أخذنا أن القيادي الفتحاوي محمد دحلان دفع بقائمة أخرى مهمة هي «قائمة المستقبل». هذا الواقع الانتخابي بقدر ما أسفر عن توحد شعبي للتغيير، أكد أن حركة «فتح» بقيادة أبو مازن ستكون أول من سيدفع ثمن هذه الانتخابات، بعد أن أكدت كل التوقعات أن أحلام أبو مازن لفوز حركته ب «50%+1» من مجموع الأصوات بات أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة.
إذا أخذنا في الاعتبار أن إتمام الانتخابات التشريعية كان سيفرض حتماً إكمال مسيرة جولتي الانتخابات الأخرى: الانتخابات الرئاسية وانتخابات المجلس التشريعي، سنجد أن ترجيحات فوز الأسير البرغوثي، الذي أكد عزمه على الترشح للانتخابات الرئاسية، فاقمت من ترجيحات الشعور بالخطر، ليس فقط من جانب السلطة الفلسطينية، ولكن من جانب «إسرائيل» بالأساس، وأطراف أخرى إقليمية ودولية حريصة على استمرار الوضع الراهن بكل رتابته، وترفض التغيير الذي أضحى واقعاً يصعب الهروب منه، خصوصاً في ظل متغيرين؛ أولهما وجود مؤشرات لانتفاضة شعبية أضحت محتملة، ليس فقط في القدس التي نجحت في فرض إرادتها على سلطات الاحتلال «الإسرائيلي» في معركة «باب العمود» الأخيرة، وثانيهما فشل بنيامين نتنياهو المكلف بتشكيل الحكومة الجديدة في مهمته.
هذا الواقع الصعب، قرأه خبير الشؤون العسكرية في صحيفة «يديعوت أحرونوت» إليكس فيشمان، الذي ربط بين هذا الواقع الفلسطيني الذي يمكن عدّه أحد مخرجات عملية الانتخابات التي لم تكتمل بعد، وبين دلالات عملية إطلاق النار من سيارة متحركة الأحد الماضي عند حاجز «زعترة» جنوب مدينة نابلس، وأدى إلى وقوع ثلاث إصابات في صفوف المستوطنين.
فهم فيشمان أن هذه العملية «تدل على عهد جديد وبداية محتملة لهزة أرضية في رام الله (مقر السلطة الفلسطينية) تهز كل الحارة»، وفقاً لوصفه، ولتوضيح ما يعنيه، كتب فيشمان أنه «منذ اللحظة التي أعلن فيها محمود عباس تأجيل الانتخابات بدأ العد التنازلي لنهاية عهد حكمه وكل ما يجري من تلك اللحظة».
هذا الاستنتاج سبقه إليه المؤرخ «الإسرائيلي» أيال زيسر في مقال نشرته صحيفة «إسرائيل اليوم» قبل يوم واحد من قرار تأجيل الانتخابات، قال فيه إن «أبو مازن» «لم يكن جاداً في قرار إجراء الانتخابات»، وإنه «كان يناور فقط مع الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، وإنه كان يعد منذ مدة للهرب من تلك العملية وتحميل «إسرائيل» مسؤولية ذلك»، لكن الأهم أنه ختم مقاله بأن «قصة الانتخابات سجلت الخطوط الأساسية لمعركة القيادة التي ستنشب حين تأتي نهاية أبو مازن».
بهذا الفهم يبدو جليًّا، أن الحلول المطروحة من جانب السلطة الفلسطينية لاحتواء قرار تأجيل الانتخابات سواء بالحوار مع الفصائل وتعزيز الوحدة الوطنية وتشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة إنقاذ وطني، باتت حلولًا قديمة، وأن الواقع الجديد، بكل مصاعبه وتعقيداته، هو الذي سيفرض حلوله، ومن هنا تأتي المخاطر التي يتحسب لها الجميع.