جاء قرار تأجيل الانتخابات منسجماً مع التقارير السرية التي أكدت فشل القائمة التي يقودها الرئيس محمود عباس، ولا سيما بعد صعود نجم القوائم المنشقة عن حركة فتح، وصعود نجم قوائم المستقلين، ومتانة قائمة القدس موعدنا، كل ذلك أربك المشهد الانتخابي، ولكن الخطر الأشد على قائمة السيد عباس تمثل بامرأة فلسطينية من غزة، امرأة لما تزل تمثل النموذج المشرف لكل نساء فلسطين، وقد أصبحن قادرات على حسم نتائج الانتخابات.
فما حكاية هذه المرأة؟
في أثناء العدوان على غزة سنة 2014، وفي ذروة القصف والتدمير الذي طاف بكأس الموت على شوارع المدن والمخيمات، اتصل بي أحدهم، وقال: تعال إلينا، لتتحدث مع زوجتي قليلاً، إنها قلقة على ابنها الوحيد، فهو يقاتل على خط المواجهة الأول، إنها الأم التي لا تعرف النوم، ولا تتذوق طعاماً، ولا تكف عن التضرع إلى الله بأن يحفظ لها ابنها.
وسط دوي القذائف والصواريخ، توجهت إلى بيتهم مساءً، وجلست مع الرجل وزوجته، وتحدثنا طويلاً عن العدوان، وعن واجبنا تجاه الوطن، وعن مصيرنا الذي لا يمكن الفرار منه، فمواجهة العدو قدرنا، والصبر راحتنا، والتوكل على الله ملاذنا من القلق، وتحدثنا عن ابني الشهيد حازم، وكيف كان يهاجم الموت في كل الساحات، وكيف تلقيت خبر ارتقائه شهيداً أكثر من مرة، وأتفاجأ بعد ذلك ببقائه على قيد الحياة، وكأن الموت يفر من أمامه، حتى جاء أجله المحتوم، قبل انتهاء العدوان على غزة بأيام، إنه الموت الذي سيلاقينا، حتى ولو كنا في بيوت مشيدة، وبعيداً عن خط المواجهة.
وضربت للمرأة مثلاً بمحمد بن عقيل أخي، وكيف كانت أمه تحاول أن تمنعه من القدوم إلى بيتي في أثناء انتفاضة الأقصى، لأن بيتي على خط المواجهة الأول مع جيش العدو والمستوطنين، ويتعرض لإطلاق النار على مدار الوقت، كانت أم محمد خائفة على ابنها من الإصابة بجراح، ولم تكن تعلم أنه سيصاب بإصابة قاتلة، وسط شارع الجلاء في مدينة غزة سنة 2003، في المكان الأبعد عن المواجهة المباشرة، فقد قصفت الطائرات الإسرائيلية إحدى السيارات، فجاءته الشظية من حيث لا يحتسب.
استأنست الأم بحديثي، وأسندت رأسها إلى صدر الرجاء، بأن الله لطيف رحيم، وانسابت مع مشاعرها الوطنية والدينية، وقالت لي وسط الدموع:
اسمع يا أبا حازم:
لقد جاءني ابني قبل أيام، جاء متخفياً عن أعين العملاء، اغتسل من غبار المعركة، وتناول القليل من الطعام، وقبل أن يغادرنا إلى خط المواجهة، ضممته إلى صدري، وقبلته، وقلت له:
اسمع يا ولدي، أنت وحيدي، وتعلم كم أحبك، وتعلم أن حياتي من دونك جحيم، ومع ذلك، فأنا أوصيك يا ولدي أن تصمد في المعركة، وألا تخذل إخوانك في المواجهة، وإياك أن ترتجف أو ترتعب عند ملاقاة الأعداء، وقاتل عدوك بكل ما لديك من عنفوان وشراسة.
وإياك يا ولدي أن تعود إلينا مهزوماً، عد يا وحيدي شهيداً، محمولاً على الأعناق، ولا تعد إلي مهزوماً منكس الرأس.
سأفخر بك شهيداً يا ولدي، ولكنني سأموت بالحسرات كل العمر لو هزمتم في هذه المعركة، فتوكل على الله، وهو حسبك.
لقد هزتني كلمات الأم من الأعماق، لقد تفاجأت أنا وزوجها بحديثها، ونحن اللذين حسبنا بأنها خائرة ضعيفة، وجئنا لتشجيعها، فإذا بها أكثر منا قوة وصلابة وشجاعة وانتماء.
وشاء ربك أن يخوض ابنها أشرس معارك المواجهة، ويعود إليها بعد أسابيع سالماً منتصراً.
هذه هي المرأة الفلسطينية، وهذا هو نصر غزة الذي صنعته النسوة اللائي تعبأ صدورهن بالانتماء الصادق والإيمان، فالأم مدرسة الرجولة والبطولة.
حكاية هذه المرأة وأمثالها أرعبت محمود عباس، وجعلته يقرر تأجيل الانتخابات، فنساء غزة مثلهن مثل نساء الضفة الغربية والقدس، نساء لا ترفع سباباتها إلا لتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن أرض فلسطين للعرب الفلسطينيين، ولا مكان فيها للأعداء والجبناء.