«أيها الناس، أين المفرُّ؟! والبحر من ورائكم والعدوُّ أمامكم، فليس لكم والله إلا الصدق والصبر، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم" طارق بن زياد.
ما إن أبدأ تذكر الأندلس وحضارتها حتى تجيش مشاعري وتعاجلني دموعي، رغم أني أكتب الآن عن الفتح الذي سبق رقيًّا وحضارة تسامقت لما يزيد على 800 عام، ولكن فقدانها بطريقة بشعة مذلَّة، وما رافقه من مجازر بحق المسلمين لا تزال من أسوأ المجازر في التاريخ البشري على الإطلاق، يبقى حاضرًا في ذهني لا يفارقني، إلى درجة أصبح فيها اسم الأندلس مقرونًا بمنسوب عالٍ من ألم لا يوصف في القلب وحرقة تذيب النفس وتؤرِّقها!
موقعة وادي برباط من الوقائع التي لم يسمع بها كثيرون، رغم كونها بالغة الأهمية في التاريخ الإسلامي، وقد سبقها فتح فارس والروم، والسيطرة على مناطقهم وعواصمهم، لينتقل المسلمون بعدها إلى فتح شبه جزيرة أيبيريا التي أطلقوا عليها اسم الأندلس لاحقًا، وتغيير واقعها ومستقبلها، فما الذي دفع المسلمين ليحققوا تلك الانتصارات في هذا الزمن القصير (92 عامًا) ويصلوا إلى الأندلس؟
- إنها العقيدة والإيمان بالفكرة الذي يدفع أصحابها لاستصغار الموت وتذليل الصعاب في سبيلها، أضف إلى ذلك الإعداد العقدي والعقلي والبدني للمحاربين، والمعرفة الدقيقة بالخصم وإمكاناته وقدراته.
في عهد الدولة الأموية فتح المسلمون بلاد المغرب بقيادة موسى بن نصير، وكان يحكمها البيزنطيون، ما عدا مدينة سبتة في الجهة المقابلة للمغرب، وكان هذا الفتح مقدمة لفتح الأندلس، فقد أصبحت السواحل المغربية عرضة لهجمات الروم بهدف استعادة السيطرة عليها، وعرضة أيضًا لهجمات القوط الإسبان لحمايتها من خطر غزو المسلمين، ومحاولة فتحها، فكان لا بد من تأمين هذه المناطق التي أصبحت جزءًا من الدولة الإسلامية.
أمَّر بن نصير القائد البربري المسلم الشجاع طارق بن زياد قائدًا على الجيش، وأوكل إليه محاولة فتح سبتة، وكان يحكم سبتة القائد الروماني يوليان، الذي يمدُّه ويدعمه ملك القوط الإسباني "غيطشه"، ولكن هجمات طارق المتكررة أجبرت يوليان على الصلح مع المسلمين.
وفي سنة 90ه توفي غيطشه ملك القوط، فاستولى أحد كبار قادته العسكريين "لذريق" على حكم إسبانيا، وكانت عاصمتها طُليطلة، فشتَّت لذريق شمل ورثة غيطشه، واغتصب ابنة يوليان حاكم سبتة التي كانت تتأدب بآداب الملوك في طُليطلة كما جرت عادتهم، غضب يوليان وأراد الانتقام من لذريق بالتعاون مع المسلمين وتحريضهم على فتح إسبانيا النصرانية.
في البداية أرسل موسى بن نصير سرية صغيرة تدرس طبيعة الأندلس وتختبر إمكانية فتحها، ثم أرسل فرقة من الجيش قوامها 500 جندي عبرت الأندلس، وشنت غارات على الساحل وغنمت الكثير وعادت لقواعدها بسلام، ما دفع موسى بن نصير لأن يجهز جيشًا لغزو الأندلس، قوامه سبعة آلاف مقاتل من الشجعان بقيادة طارق بن زياد، عبر بهم في أربع سفن، وتجمعوا عند جبل سُمي بعد ذلك باسمه، وتوغل يفتح مدن الأندلس ويقترب من طليطلة.
وصلت أخبار تقدم المسلمين إلى لذريق الذي ظنَّ أنها عملية إغارة لبربر هربوا من قيظ الصحراء وجدبها، ليسلبوا وينهبوا، فأرسل لهم فرقة جيش صغيرة، هُزمت وقُتل جنودها وعاد رجل منها للذريق بالأخبار، فسار بنفسه يقود جيشًا قوامه 100,000 مقاتل، ومعه مئة عربة محملة بالحبال والقيود ليقيد الجيش الإسلامي لتجرؤهم عليه.
وكان طارق بن زياد قد عسكر بجيشه عند نهر برباط قُرب منطقة شذونة بعد أن تحسس أخبار لذريق، وطلب المدد من موسى بن نصير فأمدَّه بخمسة آلاف، ليصبح تحت إمرته نحو 12,000 مقاتل.
وفي 28 رمضان 92 هـ التقى الجيشان في ملحمة كبرى استمرت ثمانية أيام متواصلة، انتهت بهزيمة ساحقة للذريق الذي فر وبقية جيشه، ولم يعثر له على أثر، واستشهد 3000 مسلم.
وأصبح الطريق مفتوحًا لباقي المدن، ففتح المسلمون إستجة وقرطبة ورية ومالقة وغرناطة وإشبيلية وشذونة ومدوّرة وقرمونة، واستمر الفتح حتى العاصمة طليطلة. وكان موسى بن نصير قد انضم لطارق بن زياد يكمل الفتح الإسلامي ووصل حتى الحدود الجنوبية مع فرنسا، عينه ترنو إلى فتح أوروبا كاملة، حين أتاه أمر الخليفة الوليد بن عبد الملك بالتوقف والعودة لخشيته على المسلمين في هذه البلاد المجهولة.