لا يمكن إنكار أن "منظومة الخوف" من الانتخابات التشريعية قد نجحت في خلق بيئة إعلامية تتقبل قرار التأجيل، وشكلت رأياً عاماً بدأ برسم سيناريوهات التعامل مع القرار، لكنها لا تزال تدرك أن كل ذلك لا يضمن ردة الفعل الوطنية التي بالضرورة ستستهدف شرعية من سيتخذ قرار التأجيل، التي ستكون جاهزة لجعل قرار التأجيل كابوساً سياسياً وشعبياً يؤرق راحته الوهمية، ويقض مضجعه الأمني.
كما لا يمكن قراءة تفاصيل الحراك الشبابي في القدس ضد إجراءات الاحتلال ومستوطنيه في باب العمود بمعزل عن موضوع الانتخابات. ففي الوقت الذي تريد السلطة أن تجعل من مشاركة أهل القدس في الانتخابات ذريعة لتعطيل المسار الانتخابي والعودة بالتوافق الوطني إلى نقطة الصفر وحالة الانقسام الأسود تظهر ردة الفعل المتكاملة بين غزة والضفة والقدس، لتقدم نموذجاً لفرض الإرادة الفلسطينية على الاحتلال بدلاً من طلب موافقته على قرار وطني خالص، وتقدم نموذجاً لاستعداد فصائل المقاومة في غزة لأن تقلب الطاولة على الاحتلال من أجل فرض الحق الفلسطيني في باب العمود، والوجود في ساحة لا تتجاوز 8 دونمات فقط من الوطن، وترسل في ليلة واحدة رسائل سياسية، تتجاوز قوتها عدد الـ 40 قذيفة التي أطلقتها في تلك الليلة.
لقد استمعنا إلى هتافات شباب القدس ومداخلاتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وما نقلته وسائل الإعلام العربية والأجنبية، وهي تعبر عن ثقتها بالمقاومة الفلسطينية وقائدها "محمد الضيف”، وتأكيدها أن صواريخ المقاومة قد منحت الشباب المقدسي عزة وكرامة، وأنهم ليسوا وحدهم في المعركة. وكذا كان الإسناد الجماهيري في كل محافظات الضفة الغربية وقطاع غزة، الذي شكل حالة شعبية تقول بوضوح إن إستراتيجية الاشتباك مع الاحتلال هي ما تفرض الإرادة الوطنية والسيادة الفلسطينية، وليست شعارات السلطة التي لا تملك رصيداً سوى الاستقواء بالاحتلال، لمنع التوافق الوطني من أن يأخذ طريقه إلى إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، وتحرره من قيود السلطة والاحتلال، وليكون قادراً على تلبية طموح الشعب الفلسطيني وفرض إرادته، كما فعل الشباب المقدسي مراراً وتكراراً في معركة إزالة البوابات الإلكترونية (يوليو 2017)، ومعركة فتح مصلى باب الرحمة (فبراير 2019)، واليوم في معركة تأكيد هوية باب العمود.
لا شك أن السلطة تستطيع أن تصدر قرار التأجيل كما فعلت سابقاً في 2019 تحت شعار "لا انتخابات دون القدس”، وتتجاهل كل الصيغ والحلول الوطنية التي تحافظ على مبدأ مشاركة المقدسيين في الانتخابات بآليات تستطيع لجنة الانتخابات التعاطي معها بالتوافق مع مؤسسات الأمم المتحدة والمرجعيات الدينية (الإسلامية والمسيحية) في القدس، لكنها ستخطئ كثيراً في توقع الثمن الوطني الذي سيدفعه حزب السلطة "حركة فتح” من رصيدها الوطني وتماسكها التنظيمي.
إن 35 قائمة انتخابية سترى أن خشية قائمة حركة فتح "أبو مازن" من خسارتها رصيدَها التنظيمي أمام قوائم حركة فتح الأخرى -ناهيك بمنافستها قائمة حركة حماس "القدس موعدنا"- هي السبب الحقيقي لقرار التأجيل الذي أصبح واضحاً أن الاحتلال يدعمه ويسعى إليه عبر مؤسسات السلطة نفسها.
صحيح أن تلك القوائم تمثل طموحاً شخصياً للمرشحين، لكنها أيضاً تعكس حالة استقطاب حزبي وشعبي يرفض سلوك السلطة، ولا تقبل لقائمة حزبية واحدة باختطاف القرار الوطني لمصالحها المحدودة، وبالتأكيد تريد أن تغير سلطة لا تحمل أي مشروع سياسي قابل للحياة، بل تنحت كل يوم من شبكة الدعم والمساندة التاريخية للقضية الفلسطينية عبر سلوك سياسي طائش، واستقواء بالاحتلال على الكل الوطني، وتعيش على أمل منحها مبررات الاستمرار ولو على حساب الحقوق الوطنية. وعلى ذلك فإن الحقيقة التي لا يمكن حجبها بغربال القرارات والمراسيم، أن التأجيل يأتي نتيجة خشية الاحتلال من فوز حماس في الضفة، وخشية السلطة من خسارتها في غزة. وذلك كابوس لا أرى أن السلطة ستتخلص منه بقرار تأجيل الانتخابات، بل هو لعنة ستدفع ثمنها سياسياً وشعبياً.