لقد أودع الله سرّ العاطفة في الأم، أعتقد لو جرت تقسيمات في رحمة الإنسان للإنسان لوجدنا أن أكثر الناس رحمة هي الأم بأبنائها، تخشى أن يشاكوا بشوكة، تخشى عليهم برد الشتاء وحرّ الصيف، تخشى عليهم الجوع والضُّر، فكيف بأم تعلم يقيناً أن ابنها مسّه الضرّ وهي عاجزة عن مساعدته.. أمهات الأسرى على شاكلة هذه الأم.
كشعوب في الوطن العربي التي تعاني من أنظمة عسكرية قمعية، أعتقد أن الأمهات العربيات يعرفن تماماً ماذا يعني أن يكون ابنها مقيّد الحرية خلف قضبان الأسر، يعاني التعذيب والظلم، ويُعامل بطريقة وحشية، في حين تقف هي عاجزةً عن مساعدته، وكحال الشعب الفلسطيني بخصوصية استمرار الاحتلال الإسرائيلي على أرضه، تعاني المرأة الفلسطينية من اعتقال أبنائها في سجون سارق الأرض والإرث، في سجون مَن لا يخاف الله في فلذة كبدها، حرماناً وتعذيباً وسطوةً وظُلماً، منهم من يقضي بالأسر أكثر من 35 عاماً! للإنسان أن يتخيّل هذا الكمّ الهائل من الوجع اليومي الذي تعيشه الأم على نجلها الذي سُرق منه الشباب والشيب! حُرم العيش بحرية وممارسة العيش كحق طبيعي وفطري للإنسان!
أسرى فلسطينيون قضوا لهيب العُمر في سجون الاحتلال، فقدوا أمهاتهم وآباءهم وأقاربهم أمواتاً دون أن يشاركوهم لحظاتهم الأخيرة، يرحل الأهل وأمنيتهم الوحيدة أن يحتضنوا أبناءهم، ولكن الأمنية تظل حُلماً مؤجلاً! يخرج الأسير من سجنه ويذهب إلى قبور أهله وأقاربه "أين الرفاق؟ أين الحضن الحنون؟ أين الأهل؟ أين أنا من ذاتي ونفسي وأهلي؟!".
تظلّ الأم الفلسطينية التي امتحنت بأسر أبنائها تخشى الموت حتى يتحرر نجلها، تحتضنه، تلمس وجهه، تعانق ما تبقى من جسده وروحه المتعبة، الأم الفلسطينية التي تعد يوم الزيارة المقرر لنجلها في الأسر هو يوم عيد على الرغم من مرارته وقسوة ما تلاقيه حتى تظفر بالنظر إلى نجلها من خلف الزجاج.
تخرج والدة الأسير الفلسطيني بعد صلاة الفجر، متجهة إلى محطة نقل الباصات، تحمل معها ما توفّر من طعام خفيف وماء تروي ظمأ العطش، وهي تعلم يقيناً أن ظمأ حرية نجلها مقرون بحكم الله، ثم بزوال هذا الاحتلال.
تمرّ عبر حواجز احتلالية صلفة، وعبر بوابات حديدية للتفتيش، تُخرج ما في جعبتها للتفتيش، حتى ملابسها، بعض الأمهات يتعرضن لتفتيش عارٍ إذا قرر جندي إسرائيلي أو مجندة وقحة التنكيل بأهالي الأسرى والمساس بشخصهم وكرامتهم.
تقضي زائرة الأسير نحو 7 ساعات في وسائل النقل حتى تصل السجن الموجود فيه نجلها، يقرر الاحتلال فجأة أن يحرم أسيراً ما من الزيارة، فتعود الأم محملة بقهرها رغم مشقة الطريق، مشقة الحرمان الإضافي، تنتظر أمهات الأسرى انتهاء الزيارة، ثم تعود ودموعها عرض وجنتيها، انقضى حُلم رؤية نجلها لهذا الشهر، يتضاعف قلقها كون نجلها في العزل الانفرادي أو في التحقيق سيئ السمعة وقاهر الجسد والروح، أما تلك الأم التي تكون جيدة الحظّ في ذلك الوقت، وهي التي تستطيع أن ترى نجلها الأسير من خلف زجاج سميك عازل للصوت، تطمئن عليه عبر سماعة هاتف تنقطع أكثر مما تتصل، لا تُسمن الروح ولا تُغني من عناق للأم.
غير مسموح للمحادثة أن تستمر أكثر من 40 دقيقة، لا تستطيع فيها الأم أن تعبر عن شعورها أو تنقل أخبار العائلة ومستجدات أوضاعهم، ولا يسعف الوقت أن يبوح الأسير لعائلته بشوقه ويحاول أن يربت على روح أمه بطمأنتها على أوضاعه، ولو كان غير صادق في ذلك، ولكنه يحاول أن يُظهر أنه على ما يرام، ويطلب منها ألا تقلق عليه، ولكنه يقيناً في داخله يريد أن يصرخ ويبكي في حضنها كما لو كان طفلاً، أمنيته أن يقبل يد والدته كما كان يفعل في السابق ويعتقد أنه روتين، حتى ما نراه نحن عادياً يراه الأسير حُلماً وأمنية ومعجزة! يا لقهرنا على هذه العذابات!
يوم طويل وشاق تقضيه الأم فيما تسمى "الزيارة"، وهو اسم تجميلي لمعاناة صعبة لا يمكن شرحها، تعود الأم إلى المنزل منتصف الليل، مضرجة بدموعها، تطمئن المحرومين من رؤية أسيرهم، ويعود الأسير إلى سجنه "يحمّض الفيلم"، مصطلح يستخدمه الأسرى عندما يعودون من فقرة الزيارة، يعني بأن الأسير يبدأ بمراجعة كافة تفاصيل ما قيل له، يبكي، ويحتضن وسادته أو صور أبنائه التي استطاع أن يدخلها خفية عن السجان اللئيم المتلذذ بعذابات الإنسان الفلسطيني، يهمس في الجماد أنه اشتاق، لوّعه الفراق، هدمه الحرمان وأضعف عوده.
لا شيء أقسى من أن يُقيَّد الإنسان في حريته، وأن يصادر الظلم حياته وعمره، لا شيء أقسى من أن تشتاق الأم إلى فلذة كبدها الذي تراه أغلى من روحها، ويحاصرها الظلم في أن تراه أو حتى تحتضنه! لا شيء أقسى على المرء من أن يُبتلى بأبنائه فقداً وأسراً وبُعداً وحرماناً وقسوة وظلماً، لذلك نردد دائماً كان الله في عون أم الأسير أو زوجته وأطفاله، كم من نماذج فلسطينية شاهدنا كفاحها في الصبر أمام العدوّ، لكنها تبكي في الخفاء، تسأل الله النجاة من السجن والعدوّ، ليس البكاء علامة ضعف بقدر ما هو علامة صبر متعاظم يعيشه الأسير وعائلته حتى يأذن الله بالفرج، وعساه يكون قريباً.