لا شك أننا لم نقترب سابقًا من يوم الاقتراع كما هو الحال في هذه المرة، ورغم ذلك فإنه من الطبيعي أن تتباين التوقعات حول استمرار موقف رئيس السلطة النهائي من الانتخابات التشريعية، فالتجارب السابقة كثيرة أمام ذاكرة أي متابع لمسار المصالحة الفلسطينية. ولعل آخرها كان عام 2019 حينما رفعت جميع الفصائل شعار "لا انتخابات بدون القدس" لتأكيد أهمية مشاركة سكان العاصمة الفلسطينية في الانتخابات ترشيحًا واقتراعًا.
ورغم نبل ذلك الشعار وتعبيره الوطني إلّا أن السلطة قد استغلته لتعطيل إجراء الانتخابات! حيث أرسلت طلبًا رسميًّا للاحتلال تطلب فيه موافقته على إجرائها داخل المدينة، وهي تعلم -كما الجميع- أن الاحتلال لا يقبل بذلك! وبالفعل فإن الاحتلال تجاهل طلب السلطة، وأجابها بطرق غير رسمية ليتجنب تحمُّل مسؤولية تعطيل إجراء الانتخابات أمام العالم. ويومها خرج رئيس السلطة "محمود عباس" في اجتماع لحركة فتح برام الله ليقول: "إذا لم نحصل على موافقة رسمية أننا يجب أن نُجري هذه الانتخابات في قلب القدس لأهل القدس، أقول لكم بصراحة لا نستطيع أن نجري انتخابات".
وبالفعل عُطلت كل العملية الانتخابية رغم كل الدعوات الفصائلية والشعبية، التي طالبت بإيجاد صيغة وطنية توافقية تضمن مشاركة كاملة لأهل القدس في كل مراحل العملية الانتخابية من الترشيح إلى الاقتراع. وقد دعت يومها حركة حماس إلى اعتبار الانتخابات في مدينة القدس "حالة اشتباك" شعبي وسياسي مع الاحتلال، لتأكيد أن الانتخابات هي جزء من النضال الفلسطيني لإثبات حقه على أرضه وحريته في التعبير عن إرادته الوطنية في اختيار من يمثله أمام العالم.
ومع استحضار الآلية التي تمت في آخر عمليتين انتخابيتين: الرئاسية عام 2005 والتشريعية عام 2006، حيث تمت عملية الاقتراع عبر صناديق البريد بحسب ما نصَّت عليه اتفاقية أوسلو في المادة (6) من الملحق الثاني والمتعلق بترتيبات الانتخابات في القدس: "يتمّ الاقتراع في القدس الشرقية في مكاتب بريد تتبع سلطة البريد الإسرائيلية"، وهو ما تم أيضًا في انتخابات 1996 التي شملت الرئاسية والتشريعية في نفس الوقت.
وقد تم ذلك كله رغم منع الاحتلال للجنة الانتخابات الفلسطينية من فتح مراكز تسجيل الناخبين في مدينة القدس في كل محطات الانتخابات السابقة، فقام بمداهمة كل المراكز التي تم افتتاحها ومصادرة محتوياتها، وإصدار قرارات عسكرية تمنع أي نشاط للجنة الانتخابات، وسمح فقط بالاقتراع عبر مراكز البريد الإسرائيلية.
ويجب عدم تجاهل الجهود الدولية التي تبذل من أجل الضغط على الاحتلال بعدم عرقلة العملية الانتخابية، وبالذات في مدينة القدس، رغم أن تلك الجهود لا تستطيع أن تمنع الاحتلال من ممارسة سياسات التمييز العنصري ضد المقدسيين، فهو لا ينفك يهدد باتخاذ إجراءات عقابية ضد المرشحين والناخبين. فسحب الهويات الزرقاء أقل ما يمكن أن يقوم به العدو الإسرائيلي، وقد قام بالفعل بذلك ضد نواب المجلس التشريعي وإبعادهم خلف "جدار الفصل العنصري" أي خارج حدود مدينة القدس، بهدف منعهم من التمثيل السياسي والمدني لسكان المدينة المقدسة.
وبعيدًا عن سوء الظن والبحث في النوايا الخفية، فإن المشاركة الكاملة لسكان العاصمة الفلسطينية في الانتخابات هو قرار وطني بامتياز، وأن حالة التوافق الوطني التي أوصلتنا إلى هذه المسافة من يوم الاقتراع، بعد تسجيل 15 قائمة انتخابية كلها تضم مرشحين على القدس، كعنوان لفلسطين الدولة والهوية؛ تجعلنا نثق بإرادة النضال والمقاومة التي جعلت الفلسطيني يحول سجن الاحتلال إلى جامعة تخرج الأبطال والمناضلين، ومن الحروب والحصار وقودًا لاستمرار الثورة، ومن آهات الأسرى وآلام الجرحى عناوين للحرية من أجل مستقبل أفضل للأجيال الفلسطينية القادمة، فهي تستحق أن تعيش في دولة مستقلة وعاصمتها القدس، شاء من شاء وأبى من أبى، وتبقى القدس موعدنا.