فلسطين أون لاين

"مقاومتنا الباسلة نافذة الأمل الوحيدة لحرية الأسرى والأسيرات"

أنسام شواهنة.. لحظات تمزيق جنود الاحتلال ملابسها ما زالت تجثم على ذاكرتها

...
صورة أرشيفية
غزة/ يحيى اليعقوبي:

أحضرت المجندة الإسرائيلية "قميصًا أسود" رافضة جلب بنطلون وحجاب بعد أن مزقوا ملابسها، يعلل ضابط الشاباك ذلك: "لا يوجد لدينا سوى لباس الجيش الإسرائيلي". تمالكت أنسام نفسها ثم أخرجت غضبها في ثورة كلمات: "لو كان آخر لباس في هذه الدنيا لن أرتديه".

يكمل الضابط حلقة الاستفزاز: "لدي لباس القسام ترتدينه؟ أما هي فكان أهون عليها أن تنشق الأرض وتبلعها دون أن يحقق معها مجردة من جلبابها، ومع ذلك أجابته: "أتشرف بزي القسام وبأهله".

الموقف السابق الذي تعرضت له أنسام شواهنة لحظة أسرها عام 2016م، سبقه مشهد آخر ترويه لصحيفة "فلسطين": "لحظة الاعتقال تعرضتُ للضرب من قبل جنود جيش الاحتلال، وقاموا بتكبيل يدي إلى الخلف ومن ثم حاول مستوطن إطلاق النار علي، فقام الجنود بمنعه، لكنهم سمحوا له بضربي حتى سال الدم من رأسي وفقدت الوعي من شدة الضرب".

خمس سنوات مرت بعد أن أفرج الاحتلال عنها الأسبوع الماضي، وما زال المشهد السابق يغرز جرحه في قلبها، فهي التي لم تعتد أن يراها أحد دون حجاب: " كان تمزيقهم وقصهم لملابسي صدمة كبرى، استفقتُ بعد أن هجم المستوطن علي مرة أخرى وقام بخنقي بيديه، لأرى نفسي ملقاة على الأرض دون جلبابي محاطة بأكثر من عشرين جنديًّا، وبدؤوا التحقيق معي وأنا بهذه الحالة، فرفضت الإجابة حتى قاموا بوضع غطاء قصير علي".

تسللت دموعها بخفة ولامست عنقها دون أن تشعر، استمر التحقيق معها قرابة الساعتين، ومن ثم قاموا بنقلها على حمالة بسيارة تحمل علامة "نجمة داود الحمراء" التابعة لجيش الاحتلال إلى معسكر في مستوطنة "كدوميم" دون أن تتلقى إسعافًا أوليًّا، ووضعت في غرفة "عفنة" وبدأ ضباط الشاباك التحقيق معها، فرفضت قبل أن يحضروا لها القميص الأسود السابق.

حرم الاحتلال أنسام وهي من بلدة "أماتين" غرب مدينة نابلس، من إكمال دراستها الجامعية، بزعم شروعها في تنفيذ عملية طعن لمستوطنين عندما كانت عائدة من تقديم اختبارات السنة الجامعية الأولى، وأكمل مسلسل روايته بوضع سكين بجوارها لحظة الإغماء عليها الذي سبقه اعتداء المستوطن.

جولة تحقيق طويلة

في ليلتها الأولى في السجن لم يزرها النوم، ولم يجد النعاس طريقًا إلى عينيها، كانت غارقة في التفكير الممزوج بالقهر، تستعد لجولة تحقيق استمرت ستة أشهر، انتقت موقفًا منها: "حاول أحد الضباط إقناعي بأن القدس لهم وبوجودهم على أرض فلسطين قبل وجود المسلمين بحكم نزول الديانة اليهودية قبل الإسلام، فرددت على كل حججه الواهية والباطلة، ليتهمني بتزوير التاريخ وهو ما لم أدعه يمر دون ردٍّ صارخة في وجهه: أنتم أساس التزوير في هذا العالم، وحياتكم كذبة لها نهاية على أيدينا".

"أعاد الضابط السؤال "القدس لمين؟"، تكرر السؤال أكثر من مئة مرة، وكنت في كل مرة أجيبه: لنا وستبقى لنا. فجن جنونه".

بعد ستة أشهر من الأسر كان وقع الزيارة الأولى لعائلتها مختلفًا عن أي لقاء قبله، تشعر أنها كانت في عالم آخر، لم تنسَ اعتصامها ثلاث عشرة ساعة في ساحة السجن هي والأسرى من أجل سماح إدارة سجون الاحتلال لهم بالحديث مع أهلها، في ظل انقطاع التواصل بسبب جائحة كورونا.

يوم الخامس عشر من مايو/ أيار 2019م وبعد ثلاثة أعوام من الأسر سمح لها الاحتلال بالتقاط صورة مع والديها، وكان أول عناق بعد فراق طويل كفيلًا بتجديد آلام ووجع الفقد.

بالنسبة لها كانت "الزيارات جرعة الحياة والأمل والسعادة التي تخرجها من الواقع المرير الذي تعيشه في الأسر وتحلق بها نحو فضاء السرور".

انقطاع عن العالم

تدخل أنسام إلى تفاصيل حياة الأسيرات في جائحة كورونا: "انقطعنا تمامًا عن العالم الخارجي سواء من زيارات الأهل أو المحامين، والتشويش على منفذنا الوحيد لسماع أصوات أهالينا ألا وهو الإذاعات، وانعدام مواد التعقيم في الأسر باستثناء تعقيمهم لهن في أوقات متباعدة".

ترجع بذاكراتها للوراء مستحضرة صورة المشهد في بداية الجائحة: "أحضروا لكل أسيرة كمامتين فقط ولم تكُن الكمامة طبية، وبعد مطالبات ومرور أكثر من عشرة أشهر أحضروا لكل أسيرة كمامتين جديدتين من النوع الطبي، مع أننا عرضنا على إدارة سجون الاحتلال أكثر من مرة شراء كمامات ومعقمات على حسابنا الشخصي فرفضوا ذلك".

في بيت العائلة، ومع اقتراب الشهور الأخيرة والعد التنازلي لحرية أنسام، انطلق سباق الأيام والشهور والدقائق لدى والدها، كانت نبضات الشوق تخفق بقلبه ممزقة عباءة الانتظار لهذه اللحظة.

صمم والدها روزنامة أيام، يفتتحها الثامن والعشرين من يناير، ثم بدأ العد التنازلي من ذلك اليوم، فكانت الأيام ثقيلة على قلبه يخوض ملحمة الانتظار مع أيام أضاعت عجلة دورانها، أو تجمد مسيرها، هكذا كان يشعر في رحلته لمعانقة المربع الأخير وهو يوم تحررها في التاسع من مارس/ آذار.

أنسام أيضًا كانت تعيش أشبه بالحلم في يومها الأخير في "الدامون"، تخرج ما في جعبتها من بقايا آخر مشهد لها في السجن: "كان اليوم الأخير كالحلم داخل الأسر وخارجه، لم أصدق أنني بعد هذه السنوات سأجتمع بأهلي وأحبابي وأترك الأسيرات، كانت الفرحة بلقاء أهلي موازية لحزني على فراقهن (...) شعور مختلط وصعب ولكن يبقى الأمل بالله ثم بمقاومتنا الباسلة، فهي نافذة الأمل الوحيد لحرية الأسرى والأسيرات".