الحصار يطبق فكيه على تلك البقعة الشديدة الاكتظاظ، لا يعبأ بصغير أو كبير أو امرأة أو شيخ أو مريض، يتجاهل إنسانيتهم، ويتجاوز احتياجاتهم، فمنذ متى كان المُحاصرون يتحلَّون بخلق أو إنسانية أو ضمير؟! لا يرون إلا مصالحهم التي تمليها عليهم شياطينهم!
**************
في المخيم طفل صغير لم يتعدَ الخامسة من عمره، شعره أشعث لا يظهر لونه الحقيقي لكثرة ما علق به من غبار، يرتدي ملابس مهترئة يضيع جسده داخلها لكبر حجمها الذي لا يناسب جسده الصغير، والدته تجلس خلفه تحتضن صغيرًا أظنه أخاه، تفترش حصيرة فوق أرض طينية رطبة، في محاولة يائسة منها للتقليل من حدة المشكلة، يقف الطفل داخل الخيمة بقدمين حافيتين، بعبث وبأصابع مرتجفة يحمل كوبًا زجاجيًّا فارغًا يجمع فيه قطرات مطر تقطر من سقف الخيمة، بانكسار لا يخفى على أحد يجلل محياه.
**************
صغيرة في ريعان الطفولة تعود لمدرستها بعد أن فقدت والدها في قصف صاروخي ظالم مزق جسده وأفاض روحه إلى عليين، تتحلق زميلاتها ومعلماتها حولها لمساندتها وإبعاد شبح الحزن عنها، شفاهها تبتسم، تجاهد مشاعرها لتبتسم، علها تستطيع مجاملة منْ يُتعبون أنفسهم لأجلها، بيد أن طيف أسى عميق يستوطن عينيها بجرأة.
**************
طبيب يحاول لملمة رباطة جأشه، باحثًا في جوفه عن كلمات تليق بأن تُقال لطفل في العاشرة من عمره قد أفاق للتو من تأثير المخدر بعد عملية جراحية، ومضى يسأل الطبيب بعصبية بارزة: "أين ساقي؟! ما لي لا أشعر بها؟! ماذا فعلتم بها؟!".
**************
مسنة تتكئ على عصاها فوق أنقاض بيتها المهدم، تغشاها حسرة لا توصف، تدير نظرها في المكان، تضرب كفًا بكف وتقول: "يقولون في المال ولا في العيال، ولكن مصيبتنا كانت في المال والعيال! حسبنا الله ونعم الوكيل، كله في سبيل الله وفي سبيل البلاد، مهما خسرنا فنحن لا نستسلم"، ثم تغرق في نوبة نشيج يدمي القلب ويحرك مشاعر الحجر الأصم.
**************
فوق صاروخ صهيوني حاقد سقط أرضًا ولم ينفجر ركب ثلاثة من الأطفال صفًّا واحدًا، يلعبون بمرح، يضحكون ويهزون أجسادهم إلى الأمام والخلف، كأنهم يركبون على أرجوحة تطير بهم في الهواء.
**************
مسعفة تقدم خدمات الإسعاف الأولي في مسيرات العودة الكبرى، وفي أثناء انهماكها في تضميد جرح غائر نازف لأحد الشباب تنظر في وجهه ثم تصرخ، تكتشف أنه زوجها!
**************
فتاة لم تتجاوز العاشرة من عمرها، بقصف صاروخي غادر من بوارج المحتل الظالم يسقط والدها شهيدًا تحت سمعها وبصرها على رمال البحر في بيت لاهيا، التي كانت تلهو بها في تلك اللحظة وتصنع من أحلامها قلاعًا رملية لا تستطيع الأمواج بلوغها وابتلاعها، فضائيات العالم أجمع بثَّت صورة الفتاة "هدى غالية" وهي تصرخ وتنتحب بقوة، وتحاول رفع والدها عن الأرض وإبعاد شبح الموت.
وتعود الفتاة ذاتها بعد انقضاء أربع عشرة سنة، لتظهر في الإعلام أيضًا وهي تؤدي اليمين القانونية لتصبح محامية تدافع عن دماء شعبها وقضية بلادها.
**************
أناس يحولون الألم والحصار والحروب المتلاحقة إلى رسوم وإبداعات تنقل كل التفاصيل القاتمة، التي لا تعيها إلا العيون الواعية التي تغار على الإنسانية وتنتصر لها.
فهذا يرسم هموم غزة على رمل الشاطئ، وتلك ترسم دمعاتها على حبات الأرز، وهذه ترسم غمومها بالفحم على قطع القماش، وذاك يرسم على الجدران أملًا مشرقًا وورودًا وبسمات.
في غزة وحدها تُحول قنابل الغاز إلى قوارير لزراعة الورود!