تردد كثيرًا في الآونة الأخيرة أن الانتخابات التشريعية المقبلة في 22 مايو ما هي إلا أحد إفرازات أوسلو، وأن كل ما ينتج عن هذه الانتخابات سيكون مسقوفًا بسقف أوسلو، وبناءً على ذلك اتخذت بعض الأحزاب والحركات والشخصيات مواقف بمقاطعة الانتخابات نتيجة لهذا الموقف، فهل نحن تحت سقف أوسلو فعليًّا؟ أم أن هذا الرأي يحتاج إلى وقفة تحليلية نستجلي بها حقيقة الموقف؟
أنا أعتقد أن اتخاذ موقف حدي من هذه المسألة أمر غير واقعي، ويجب أن نتعامل مع قضية اتفاقية أوسلو وفقًا لاتجاهين: أما الاتجاه الأول فهو قانوني، لنتعرف إلى ما ينص عليه القانون الدولي في هذه المسالة، وأما الاتجاه الآخر فهو عملي واقعي لنرى هل ما يحدث على الأرض يتطابق مع نصوص الاتفاقية أم أنه بخلاف ذلك.
ولنبدأ أولًا بالجانب القانوني، فاتفاقية أوسلو هي اتفاقية وقعت بين شخصين من أشخاص القانون الدولي، وهما دولة الاحتلال ومنظمة التحرير الفلسطينية، وقد اكتسبت منظمة التحرير الفلسطينية صفتها أحد أشخاص القانون الدولي منذ عام 1974م، حينما قبلت منظمة مراقبًا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، صحيح أن الدولة هي الشخص الرئيس في القانون الدولي، وهذا القول ما زال صحيحًا، لكنه ابتداء من بدايات القرن الماضي احتلت المنظمات الدولية أوضاعًا كأشخاص من أشخاص القانون الدولي، ثم أصبحت حركات التحرر الوطني تتقدم على المسرح الدولي وصار لها حقوق وأوضاع معترف بها في القانون الدولي، وجاءت اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكول الإضافي لعام 1977، ليمنحا مقاتلي هذه الحركات أوضاعًا مميزة في الحماية وحقوقًا مقاتلين وأسرى حرب، وبذلك اكتسبت صفة أشخاص القانون الدولي كما يقول الأستاذ أنيس قاسم.
وحسب اتفاقية فينا للمعاهدات التي دخلت حيز النفاذ في عام 1980م؛ إن أسباب انقضاء المعاهدات متعددة، يمكن إجمالها فيما يلي: (التنفيذ الكلي - الرضا المتبادل - تحقق الشرط الفاسخ - حلول الأجل - سقوط المعاهدة - انقضاء المعاهدة بإرادة أحد الطرفين وحده - الحرب - شرط بقاء الشرط على حاله أو أثر تغيير الظروف في المعاهدات - استحالة التنفيذ - الإخلال الجوهري بأحكام المعاهدة).
وإن اتفاقية أوسلو من حيث شروط انقضاء المعاهدات، وفقًا لاتفاقية فينا المشار إليها سابقًا، قد تحقق فيها عدة شروط من شروط انقضاء الاتفاقيات، ولعل أبرزها شرط حلول الأجل إذ حل أجل انقضاء أوسلو منذ عام 1999م، ولم تجدد الاتفاقية منذ ذلك الوقت، وكذلك توافر شرط استحالة التنفيذ، ذلك أن الاحتلال قضى على كل فرصة لتحقيق حل الدولتين باستمرار عملية الاستيطان، وكذلك توافر شرط شن الحرب، فقد أقدم الاحتلال على شن ثلاث حروب مدمرة على الفلسطينيين في المدة السابقة، فضلًا عن عمليات التصعيد التي كانت تحدث بين الحروب، وكذلك أيضًا تحقق شرط الإخلال الجوهري بأحكام المعاهدة بالتنكر المستمر لكل ما وقعه الاحتلال، بل وصل به الأمر إلى قتل ممثل الطرف الآخر من الاتفاقية الشهيد ياسر عرفات (رحمه الله)، وبناء عليه إن القول باستمرار أوسلو قانونيًّا من وجهة النظر القانونية أمر فيه شك كبير، ولا ينهض رأيًّا قويًّا له وجاهته في المحاججة القانونية عند الاقتضاء، أما من الناحية الواقعية فإن تطبيق الاتفاقية على الأرض محل شك كبير، وذلك أن اتفاقية أوسلو اتفاقيةَ سلام لا يمكن فهم تطبيقها مع وجود حركات مقاومة مسلحة في قطاع غزة (وهو جزء خاضع لاتفاقية أوسلو على افتراض أن الاتفاقية مطبقة وسارية) تمتلك جيشًا من المقاتلين، الذين يخالف وجودهم أساسًا أساس عقد الاتفاقية، التي نصت على أن يكون الوجود المسلح للفلسطينيين عبارة عن قوة شرطة مدنية فقط بتسليح خفيف، وتتعاون أمنيًّا مع قوات الاحتلال، ثم وجود مجلس تشريعي غير ملتزم إطلاقًا باتفاقية أوسلو نتيجة انتخابات أفرزت قوى المقاومة منذ عام 2006م، وما تبع ذلك من عمليات عسكرية ضد الاحتلال وقصف لعاصمة الاحتلال من المقاومة بالصواريخ، فضلًا عن فتح الحدود مع مصر لإدخال البضائع والأشخاص دون وجود أي أثر للاحتلال على الأقل من ناحية قطاع غزة، وربما من الناحية الظاهرية لدى الأشقاء المصريين، كل ما سبق إضافة إلى الانتهاك اليومي للاتفاقية من الاحتلال أمر لا يستقيم القول معه إن اتفاقية أوسلو ما زالت مطبقة من حيث الواقع في قطاع غزة.
أما في الضفة الغربية فإن اتفاقية أوسلو سقطت بمحاصرة المقاطعة واغتيال الشهيد ياسر عرفات على يد الاحتلال، وهو الذي وقع الاتفاقية بخط يده، وكان الطرف الأصيل عن الشعب الفلسطيني في التمثيل، ثم بعد ذلك استمرار الاستيطان موسعًا، وتجاوز الاحتلال الصلاحيات المنصوص عليها في الاتفاقية ذاتها، كنقل الصلاحيات والبدء في مفاوضات الحل الدائم وفشل كل ما تلا ذلك من مفاوضات، وارتهان السلطة في رام الله بحكم الأمر الواقع للاحتلال، كل ذلك يؤكد أن الاتفاقية سقطت في أصلها، وقد تكون عدلت من الناحية الواقعة والعملية تحت ضغط الاحتلال من طرف واحد، الأمر الذي يذهب بنا إلى القول إن أوسلو توجد حيث يستطيع الاحتلال فرضها بالقوة العسكرية، أو حيث لا تستطيع الإدارة الفلسطينية في الضفة الغربية التحلل منها بقهر الاحتلال، ما يجعل تطبيقها تطبيقًا قهريًّا يعيب الرضا الذي هو أساس كل اتفاق.
بناء على كل ما سبق أظن أن القول بأن اتفاق أوسلو لا يزال يحكم الشعب الفلسطيني، وأن الانتخابات الفلسطينية تجرى تحت سقف أوسلو وهي إفراز له؛ قول يجانبه الصواب، ولا أراه إلا ذريعة تستخدم لتغطية المواقف السياسية، تلك الرافضة للدخول في العملية الانتخابية، أو تلك التي ترغب بالبقاء تحت حماية الاحتلال للحفاظ على مصالح حزبية أو شخصية ضيقة.