مع بدء التحضيرات للانتخابات التشريعية الفلسطينية يبرز تساؤل عن الدور الذي سوف تلعبه (إسرائيل) في التحكم بنتيجة هذه الانتخابات بالطريقة التي تصب في مصلحتها.
لا نبالغ إن قلنا إن الانتخابات الفلسطينية تُجرى تحت الاحتلال الذي أبى إلا أن يصدق هذا الوصف بممارساته وتدخلاته التي بدأت مبكراً وبعيداً عن أعين المراقبين الذين لم يمارسوا دورهم بعد. وتزامن مع ذلك سلسلة من الممارسات السياسية والميدانية من السلطة الفلسطينية التي وضعت نزاهة الانتخابات على المحكّ.
اعتقالات وتهديدات
نفّذت قوات الاحتلال جملة من الاعتقالات بحق قياديين بحركة حماس في تدخل سافر بالانتخابات، ومحاولة رسم مسارها.
من أبرز القياديين الذين اعتقلتهم قوات الاحتلال من حماس، فازع صوافطة، وعدنان عصفور، والمحرر عبادة شفيق الخراز، وخالد الحاج، والدكتور مصطفى الشنار، والصيدلاني عمر عبد الرحيم الحنبلي، وغيرهم.
كما اعتقلت هذه القوات النائب والقيادي ياسر منصور ليصبح عدد نواب المجلس التشريعي المعتقلين لدى الاحتلال 11 نائباً.
وكان اتفاق القاهرة الموقع بين الفصائل الفلسطينية اكتفى للأسف برفع توصية إلى المجلس التشريعي الجديد للنظر بقضيتهم بدلاً من الاتفاق على جهد وطني لتصعيد قضيتهم في المحافل الدولية على الأقل.
ليس هذا فقط، فقد نشطت قوات الاحتلال في تهديد ناشطي حماس لمنعهم من الترشح للانتخابات، وعلى رأسهم رئيس المجلس التشريعي عزيز دويك والقيادي بحماس نايف الرجوب.
يضاف إلى ذلك حملة منسقة بين الاحتلال والسلطة من خلال التنسيق الأمني الفعال لاعتقال النشطاء من حركات المقاومة، إذ تزوّد السلطة (إسرائيل)، من خلال مكتب الارتباط، بأسماء وعناوين الناشطين، لتقوم قوات الاحتلال باعتقالهم بمداهمات يومية في مختلف مدن وقرى الضفة.
وتبدو المسألة كأن السلطة التي التزمت وفقاً لاتفاق القاهرة وقف حملات الاعتقال السياسي، قامت بتحويل هذه المهمة إلى الاحتلال، الذي لوحظ مؤخراً أنه كثف موجات الاعتقال لتشمل الكوادر والقياديين من حماس.
هندسة الانتخابات والتحكم بمخرجاتها
ويستطيع الاحتلال التأثير في الانتخابات عبر طرق عديدة أخرى، مثل الإغلاقات وفرض قيود على التنقل واستهداف الاجتماعات الانتخابية، وسحب هويات المقدسيين لمنعهم من المشاركة بالانتخابات، أو القيام بعمليات عسكرية في قطاع غزة تحدّ من حركة المقاومين ومشاركتهم في الانتخابات، وغيرها من الوسائل التي يمتلكها احتلال يتحكم في الحياة الفلسطينية.
إن موقف (إسرائيل) من الانتخابات لا يتبع وتيرة واحدة، فهو سيرحّب بها إن تمكنت من تثبيت سيطرة فتح وإدماج حماس في المعادلة الفلسطينية، مع الاستمرار بالمطالبة باعتراف المشاركين في السلطة بـ(إسرائيل) والاتفاقات معها ونبذ ما يسمى الإرهاب.
وعلى الرغم من أن هذه الشروط لا تبدو مطلباً غربياً، فإن حدتها ستتصاعد مع حجم الإنجاز الذي يمكن لحماس أن تحقّقه في الانتخابات، لذلك يسعى الكيان لتقليص احتمالات تحقيق حماس لمكاسب من خلال الإجراءات التي يقوم بها على الأرض.
وبحكم أن (إسرائيل) هي القوة الحاكمة على الأرض، فإنها قادرة على التحكم بمُفرَزات الانتخابات بحيث لا تشكل تهديداً لها.
أما إذا نجحت هذه الانتخابات في تدجين حماس ودفعها إلى القبول بالعمل السياسي دون المقاوم أو جعل تمثيلها ضعيفاً مقابل فتح بتحالفاتها وقوائمها التي قد تصل إلى ثلاث أو أكثر، فلا يتوقع أن يواجه ذلك باعتراض من (إسرائيل)، فضلاً عن أن هذا هو الهدف الغربي الفلسطيني من إجراء هذه الانتخابات أصلاً!
لذلك تتابع (إسرائيل) هذه الانتخابات بعناية، وتتدخل فيها مبكراً وتحاول تنسيق خطواتها مع السلطة الفلسطينية لكي تحقق الانتخابات الهدف المطلوب منها، وهو دمج حماس في اللعبة السياسية تحت سقف اتفاق أوسلو، بما يعنيه الحرص على ألا تحصل حماس على نسبة غالبة في أي تشكيل تقرّر فيه الحركة خوض الانتخابات.
سلطة متحكمة
وهذا يطرح دور السلطة الفلسطينية في الانتخابات، وهي التي بدأت إصدار المرسوم الرئاسي بإجرائها وفق القوائم النسبية لإضعاف فرص حماس في الحصول على أغلبية فيها، والتنسيق المبكر مع الأردن ومصر أمنياً بما يضمن حرمان حماس من أي فرصة للحصول على أغلبية، لأن ذلك لو حصل فسيعني ببساطة أن تطلق السلطة النار على نفسها، وتتنازل عن مكتسبات قياداتها الشخصية، وهيمنة تنظيمها التي لم تنقطع على الضفة الغربية.
وهذا يدفع إلى الاعتقاد بأن تزوير هذه السلطة الانتخابات وارد جداً، وهو يمكن أن يتمّ بطرق فنية غير لافتة لتخفيض نسبة حماس لتكون بحدود 25-30% فقط.
كما أن عباس عمد من خلال مرسومه للتضييق على المستقلين برفع رسوم التسجيل والتأمين، كما ضيّق أكثر على المرشحين بالمطالبة بتقديم استقالاتهم من أعمالهم عند الترشح، وغيرها من الشروط المقيدة للترشيح. وللأسف فإن حماس التي وقعت على اتفاق القاهرة لم تطالب عباس بالتراجع عن هذه الشروط، وإنما أصدرت إليه "توصية" بإعادة النظر فيها.
وعلى الأرض استدعت أجهزة أمن السلطة شخصيات وحقّقَت معها واعتدت عليها بالضرب، كما لم تطلق سراح معتقلين سياسيين لديها وفقاً لالتزامات اتفاق القاهرة، دون أن يواجه ذلك برد فعل قوي من حماس وفصائل المعارضة.
ويتساءل كثيرون عن مدى نزاهة انتخابات يهدّد فيها عباس من يترشحون فيها بشكل مستقلّ عن قوائم فتح، ويضغط فيها على الأسير مروان البرغوثي وناصر القدوة لعدم منافسته في الانتخابات الرئاسية.
قد لا يتمكن عباس أو لا يكون راغباً حتى بوقف الانتخابات التشريعية، لأنه يعتقد أن حركته قادرة في ظروف الاحتلال والإمساك بمجريات الأمور في الضفة أن تحقق فوزاً يدفع حماس إلى القبول بالهزيمة والمشاركة كأقلية غير معطلة في العملية السياسية.
ولكن أبو مازن يواجه تهديداً حقيقياً في انتخابات الرئاسة من البرغوثي والقدوة اللذين تشير استطلاعات الرأي إلى أنهما قد يتفوقان عليه في الأصوات في حالة قرر أحدهما المنافسة، بما قد يدفعه إلى التفكير في إلغاء هذه الخطوة أو تأجيلها وتأجيل أو إلغاء انتخابات المجلس الوطني.
وهذا يدفع إلى التذكير بأن الخطأ الأكبر كان في قلب أولويات الانتخابات، وضرورة البدء بانتخابات المجلس الوطني الذي يحدد دور السلطة وانتخاباتها مع رئاستها وينتخب رئيساً للمنظمة.
الطرف الأضعف
ويبدو في ضوء ذلك أن حماس هي الطرف الأضعف في المعادلة، ويرجع ذلك بالأساس إلى بيئة هذه الانتخابات التي تجري تحت الاحتلال، وفي ظل سلطة مرتهنة له ويرتبط وجود قياداتها باستمرار دورهم مع الاحتلال، الأمر الذي يجعلهم يعضون على مواقعهم بالنواجذ ويمنعون حماس من انتزاعها منهم بكل الوسائل والطرق.
وللأسف فإن حماس مطالبة بأن تضمن نزاهة الانتخابات في قطاع غزة الذي تسيطر عليه، لكن لا توجد ضمانات من أي نوع للنزاهة في الضفة من السلطة أو الاحتلال المتحكم الرئيس هناك، والكل يعرف أن المراقبين لا يمكنهم ضمان النزاهة في أي انتخابات.
قد تنجح الانتخابات بمرحلة التشريعي، ولكن استمرارها ببقية المحطات تحوم حوله الشبهات الكثيرة، وقد لا تنجح الانتخابات بمجملها في ضوء تعقيد العوامل المؤثرة بها، ولكنها قد تعزز الخلافات ولا تنهيها ما دام الاتفاق لم يتم على برنامج سياسي يقود المرحلة.
ويعيد هذا طرح السؤال الأساسي وهو: ما قيمة الانتخابات في ظل احتلال متحكم في البلاد والعباد؟
وما هي النزاهة التي ننشدها ما دام الاحتلال قادراً على هندسة الانتخابات والتأثير فيها بما يخدم مصالحه؟
ويعيدنا ذلك أيضاً إلى المربع الأول الذي طالما تحدثنا عنه، ألا وهو الأولويات الفلسطينية في هذه المرحلة، وموقع الانتخابات منها.
فالشعب الفلسطيني هو في مرحلة تحرر وليس مرحلة إقامة الدولة، وأولويته التي تحددت بلقاء الأمناء العامين للفصائل في بيروت هي بالمقاومة الشعبية، ومواجهة صفقة القرن وخطة الضم، ومقاومة التطبيع، ومن ثم إعادة تفعيل المنظمة، وإدارة خلافاته ومعالجة آثار الانقسام قبل الولوج للانتخابات التشريعية.