الاستبشار بصدور مرسوم تشكيل محكمة قضايا الانتخابات هو انعكاس طبيعي لحالة الدفع باتجاه التوافق الوطني؛ أكثر منه فرحًا بضمان النزاهة والشفافية، إذ إن الكل الوطني يرى أن تمرير الانتخابات التشريعية يمثل تكتيكًا إجرائيًّا للوصول إلى انتخابات الرئاسة ثم المجلس الوطني.
التوصيف السابق يمثل وجهة نظر محترمة؛ لكن ثمة وجهة نظر أخرى لأصحاب القبعة السوداء، أو ما أسميها القبعة الحذرة، التي يميل أصحابها إلى تقديم التخوفات والمحاذير على الآمال والطموح، فإن تعدد التجارب على مدى خمسة عشر عامًا من إدارة الانقسام رسم سلوكًا انتقائيًّا في تنفيذ التوافقات والتفاهمات الوطنية، إذ دأبت السلطة وحركة فتح على تنفيذ البنود التي تخدم تفردها وتعزيز سطوتها الوطنية، وتترك ما عداها بحجج واهية تحت عناوين مختلقة كالتمكين والتسليم، واشتراط قبول برنامج المنظمة (أي برنامج أبي مازن).
ومع ذلك أرى أننا مجبرون على التفاؤل، ولسنا مضطرين إلى التشاؤم، فلم نكن أقرب إلى الانتخابات من هذه المرة، فالحراك التنظيمي لدى كل الفصائل الفلسطينية على قدم وساق، وقوائم المستقلين الانتخابية تتشكل وتندمج وتنقسم يوميًّا، حتى حركة الجهاد الإسلامي التي أعلنت رسميًّا أنها لن تشارك في قائمة انتخابية لن تترك خيار ترشيح شخصيات بصفة مستقلين، وستدفع عناصرها للتصويت من أجل حماية بندقية المقاومة.
إن الوصول إلى يوم الاقتراع 22 مايو هو حلم فلسطيني كبير يستحق التضحية من أجله، لما يمثله من تجسيد للقوة الذاتية التي تخطت 15 عامًا من الفشل الوطني في إنهاء الانقسام، رغم تعدد التفاهمات ووضوح البنود والمسارات الوطنية التي صيغت مرارًا وتكرارًا، وإلى أن يتحقق ذلك الحلم نحن بحاجة إلى ممارسة أعلى درجات الوعي الوطني تجاه محاولة حرق المراحل أو تجاهل المحاذير على مبدأ "الانتخابات بأي ثمن"، وكأن إجراء الانتخابات هو الحل السحري للأزمة الوطنية.
نحن نمر بمرحلة إعادة تشكل وصياغة على أساس الاستقطابي الانتخابي المتعدد القطبية، ولعل تعدد القوائم الفتحاوية يشي بذلك، فلم تعد فتح "أوسلو" قطبًا انتخابيًّا في مواجهة حماس "المقاومة"، فكلتا الحركتين قد ينتج عنهما قوائم تمثل خليطًا من الفصائل والمستقلين، بعضها -لا شك- سيهاجم أوسلو وأخرى ستركز على نقد تجربة المقاومة، وبين هذه وتلك قوائم أخرى ستغرد بوعود لا رصيد لها عند الدول ولا المانحين.
ومع ذلك يجب ألا نضحي بكل شيء من أجل انتخابات لا تنقلنا إلى حالة سياسية أفضل، ولا أقول إن ذلك يعني تجاهل الاختلافات الكبيرة بين الفصائل، ولكن شهوة البقاء لدى السلطة وخوفها من خسارة الانتخابات لمصلحة قوى وطنية يجعلان كثيرين يخشون نزعتها إلى تعطيل الانتخابات كما في كل مرة، وبالتالي الذهاب إلى مزيد من التشظي الوطني، الذي سينتج -لا شك- بناء على إفرازات الاستقطاب الانتخابي، الذي بات واضحًا في تشكيل القوائم الانتخابية.
لا شك أن صياغة البرامج الانتخابية لدى جميع القوائم لن تكون سياسية فقط، ولكنها ستحوي مقاربات خدمية واقتصادية لفئات اجتماعية متعددة -وهذا هو حال الانتخابات- رغم أن الخط السياسي العام سيبقى مؤثرًا في روح تلك البرامج تماشيًا مع الحالة الفلسطينية، إذ كيف يمكن لأي قائمة أن تتجاهل بيان موقفها من مقاومة الاحتلال أو مشروع التسوية؟!
سنرى محاولات جريئة لكسر الجمود السياسي الذي طالما اتُّهِمت به الفصائل الفلسطينية، من طريق البرامج الانتخابية التي -لا شك- ستراعي وجود مستقلين ضمنها، أيضًا "الكوتة" النسائية ستفرض نفسها -لا شك- على الحياة المدنية، إضافة إلى تعدد القوائم للفصيل نفسه التي ستفكك الكثير من عقده التاريخية وأسراره الداخلية.