المثالية، الكمال، النموذجية، تمام التمام، الأفضل على الإطلاق ... مرادفات تقودنا إلى المعنى ذاته: الخالي من العيوب، الجميل من جميع نواحيه.
يقفز إلى أذهاننا السؤال الآتي: وهل البشر كاملون؟ هل يمكن لأيٍّ منا أن يخلو من العيوب؟ هل يمكنه ألا يخطئ؟
في عصر التكنولوجيا والسرعة والذكاء الصناعي اعتقد الإنسان أنه بلغ الكمال، إلى درجة أهَّل فيها نفسه ليضع مقاييس لهذه المثالية المزعومة ... وضع أرباب الكمال والمثالية صورًا محددة لكل شيء تقريبًا، تركوها تُنشر في كل بقاع الأرض وطوال الوقت؛ لتبقى تلح على الأذهان حتى تترسخ في أعماقها، سواء شاءوا أم أبوا، بدءًا من أشكالهم وألوانهم وأوزانهم وتصميم بيوتهم وملابسهم وأحذيتهم ووجباتهم الغذائية، والدورات التدريبية التي عليهم أن ينضموا إليها، والشهادات والدرجات العلمية التي عليهم أن يحصلوا عليها ... والقائمة تطول ولا تكاد تنحصر، فإذا أردت أن تكون الأفضل، يجب أن تتطابق سماتك مع هذه المقاييس المتفق عليها!
وفي الجانب الآخر من الصورة نجد البشر يتسابقون في تنفيذ ذلك، فيستميتون في مقارنة أنفسهم بغيرهم طوال الوقت، ويبذلون ما بوسعهم ليكونوا على المقاس تمامًا!
ترتبط الفتاة بشاب خلوق ذي دين يحرص على إسعادها، تُفاجأ بعد مدة لا تطول بأنها قد انفصلت عنه، لماذا يا تُرى؟! غريب! الأمر ببساطة لأنه ليس مثاليًّا كما كانت تعتقد، عليه أن يكون رومانسيًّا بما يكفي لتشعر معه بالسعادة، ويغيب عن خاطرها مهرها المرتفع الذي يغرق في العمل والكدِّ من أجل سداده، وطلبات أهلها التي لا تنتهي في تجهيز البيت الذي ستسكنه، وطلباتها فيما يتعلق بحفلة العرس ولوازمها التي عليها أن تكون "على قد المقام".
الأب يسابق الزمان ليكون لأبنائه أبًا مثاليًّا، يقدم لهم كل شيء، وإن كان فوق استطاعته، يرهن حياته من أجلهم، يفعل كل ما يسعدهم ويضمن لهم مستقبلًا ماديًّا مريحًا، يقرأ عن التربية وأساليبها، ويطبقها عليها، يحرص على تعليمهم وتدريسهم، يضع أمامه سلسلة من الأهداف الصعبة، ما إن يحقق أحدها حتى يسارع إلى وضع آخر، من أجل سعادتهم وتميزهم، لا شك ... وفي النهاية يجد أنه وقع في الكثير من الأخطاء وعليه سداد الثمن، كيف يحدث ذلك وقد حرص طوال الوقت على الكمال إلى درجة أنه كان كمن يمشي على حبل دقيق، بإمكان أي حركة غير مدروسة أن تسقطه أرضًا بلا رحمة؟!
الأم تركض لاهثة ليكون أبناؤها أوائل صفوفهم ومدارسهم أيضًا، يجب أن يتفوقوا في كل مجال يخوضونه، فتقلب حياتهم جحيمًا لا يُطاق، الدراسة تملأ وقتهم عن آخره، حتى النوم لا يأخذون حاجتهم اليومية منه لأنهم يجب أن يكونوا الأفضل بلا منازع.
وما أكثر هذا النوع من الأمهات في أيامنا هذه! تتناسى الأم أن لكل من أبنائها قدرات عقلية خاصة به، وأنهم يتفاوتون في الذكاء وأنواعه؛ فما فاتها تحقيقه في صباها على أبنائها أن يحققوه لها، عليهم ألا ينقصوا عُشرًا من علامة، وعليهم ألا يدعوا أحدًا من زملائهم يفوتهم، يجب أن تتباهى بإنجازاتهم أمام الجميع!
تفرض عليهم معايير صارمة تقيِّدهم وتمنعهم من اللعب والمشاكسات وتهدر أيامهم وطفولتهم على طاولة الدراسة وبين الدفاتر والكتب، كأن الدراسة فقط هي محور الحياة وأساس النجاح، لتُخرج منهم إلى الدنيا في النهاية: أشخاصًا تُعساء، محبطين، معقَّدين، وقد ينتهي بهم الأمر إلى الوقوع في وحل الاكتئاب.
كثيرون منا لا يفكرون في كيفية خلق السعادة لأنفسهم ولا لأبنائهم في وسط هذا الكم الهائل من الضغوط والصعوبات اليومية، يحاصرون أنفسهم ويسجنون أبناءهم في قوالب معدَّة سلفًا، لا مجال لأن يشذُّوا عنها، لا يحق لهم أن يكونوا بغير الصورة النمطية المطلوبة.