فلسطين أون لاين

سوسنيات (7) حكايةُ شعبِ الحَكايَا

...
الأسير سعيد ذياب

الشعوبُ الحَيَّةُ هِيَ الّتي تُبدِعُ دَائِمًا في كِتابةِ تَاريخِهَا، وَتَخلِيدِ مَآثِرِهَا، كَنزًا تَتَوارَثُهُ الأَجيالُ وَتَحفَظُهُ القلوبُ، وتَتَباهَى بِهِ عَلى هَامِ الزَّمَانِ وَتَعَاقُبِ القُرونِ، وَليسَ كُلُّ التّاريخِ هُنَا وَرَقًا وَسُطُورًا، وَلا كُلُّ المِدَادِ حِبرٌ يَسِيلُ، وَلَا كُلُّ الشُّعوبِ الّتي تَعشَقُ الحَياةَ حَدَّ الفِرَارِ مِنهَا كَشعبِ فِلَسطِينِ، هَذا الشّعبِ النَّابِضِ عِشقًَا لِجَلالِ هَذهِ الأَرضِ، المُتَشَرِبِ لِقَدَاسَتِهَا وَلِبَرَكَةِ تُرَابِها وَلِعَبَقِ خِضَابِها، المُتَمَيِّزِ على ذَاتِهِ بِذَاتِهِ، المُنطَلِقِ في َرحَابَةِ العَطَاءِ المُتَأَلِّقِ في صِنَاعِةِ الفِدَاءِ، المُتَبَتِّلِ في مِحرابِ الشَّجَاعَةِ المُيَمَّمِ شَطرَ دَفَقِ الدِّمَاءِ، السَّاكِبِ على مَذبَحِ الوَطَنِ دَمعَ العُيونَ تَتوقُ لِنَصرِ يَومٍ تَأخَرت خُيُوطُ فَجرِهِ عن الانطِلاقِ، تَغدُو إلى التُّرابِ لِمُستَقَرِ نَبْتِ البُذُورِ، تُزْهِرُ بِها الفُروعُ وَتُثمِرُ، تَتَوارَى الجُذُور في هُدوءٍ وَثَباتٍ يَمُدُّهَا بِمَزيدِ قُوةٍ َورُسُوخٍ يَقِيهَا الضَّعفَ والخُذلانِ، لِتَتَدَفَّأ َعلى صِدقِ حَرارَتِهَا الأجيَالُ.

لَو كَان اللِّسانُ ناَطِقًا بِكُلِّ شَيءٍ لَقَعَدتْ بِهِ الفَصَاحَةُ عِن شَرحِ تَمامِ البُطُولَةِ في سُلُوكِ شَابٍّ تَمنْطَقَ بِالمَوتِ حِزَامًَا تَستَحيلُ بِهِ أَشلاؤُهُ قَنابِلَ تَرتَجِي قَتلَ الدَّخِيلِ، أَو في تَشييِعِ أُمٌّ لِبعضِ رُوحِهِا تُزَنِّرُهُ ثَوبَ الشَّهادَةِ، وَتُمسِكُ يَدَيهِ بِالبَاتِراتِ تُسَيِّرُهُ إلى الحَتُوفِ بِالرِضَى والزَّغَاريدِ، وَلَو كَانَ المَقالُ مُتَّسِعًَا بِالسٌّطورِ مُتَبَاهِيًَا بِكُلِّ مِدَادِ الأَرضِ مُستَعِينًَا بِجَميعِ مُفَردَاتِ اللُّغَةِ، لَضَاقَ بِهِ الحَالُ عن شَرحِ الدَّافِعِيَّةِ الّتي كَانتْ وَرَاءَ إِبدَاعِ الرِّجَالِ الذينَ خَرجُوا عَنِ مَأْلَوفِ الطَّبيِعَةِ وَنَوامِيسِ الأَشياءِ، فَراحُوا يَحفُرُونَ في صَخْرِ المُستَحِيلِ وَيَكتُبُونَ إِيقَاعًَا جَديدًَا يَعزِفُونَ عَليهِ لَحْنَ إِبدَاعاتِهِم، يَبنُونَ مِنَ الأَحلَاِم صَرْحَ الحَقِيقَةِ يُطَاوِلُونَ بِهِ مَرَاتِبَ المَجْدِ وَيرتَفِعُونَ إِلى فَضَاءِ المَعَالِي.

هَذا الشَّعبُ الّذي أَتقنَ فَنَّ العِشْقِ هِيَامًَا يَتَغَلْغَلُ في الحَشَا بَينَ الضُّلُوعِ، يَأخُذُ بِالجِبَاهِ تَتَعَفَّرُ في سَاحِ الإِبَاءِ، وَتَسْتَمطِرُ الفَرَجَ في تَمَرُغِهَا على أَبْوابِ السَّماءِ، يَبُرعُ في السَّيرِ على جَمرِ المَواجِعِ طَاوِيًَا بُعْدَ المَسِيرِ بِنَظرَةٍ يَرَى مِن خِلَاِلها اللِّوَاءَ مَعقُودًَا فَوقَ نَواصِي الخَيْلِ اخْتَلَطَ صَهِيلُهَا بِتَكبِيرِ الجُمُوعِ؛ فَضَجَّ الأَثِيرُ بِعَزمِ الحَماسِ وَتَهيَّأتْ قِبَابُ القُدسِ في انْتِظَارِ مَوَاكِبِ التَّحرِيرِ، واسْتَطَالَتْ أَعنَاقُ المَآذِنِ في شُمُوخٍ عَلَّهَا تَحظَى بِشَرَفِ التَّلبِيَةِ لِيومِ النَّصرِ المُبِينِ.

لَمْ يَعِرفِ الذِلَّةَ يَومًَا وَلَمْ تَتَسَرَبُ مُفرَدَاتُها إِلى قَامُوسِهِ النَّابِضِ بِالثَورَةِ وَالعُنفُوَانِ، بَلْ أَدْخَلَ مُصطَلَحَ "الانتِفَاضِ" كَعَلامَةٍ مُسَجَّلَةٍ لَهُ في عُرْفِ الشُّعوبِ وَمَحفُورَةٍ على صَخرِ جِدَارِ الزَّمَنِ، بَقِيَ وَفِيًَّا لِذَاتِ الأَرضِ الّتي فَتَحَ بَابَها على سِعَةِ المَلَأِ الأَعلَى، مُتَمَسِكًَا بِقَداسَةِ كُلِّ مَا فِيها رَغمَ ضَيَاعِهَا مِنهُ واستِلابِ بَرِّهَا وَبَحرِهَا، جَوِّهَا وَنَهرِهَا، واغتِصَابِ سَهلِهَا وَقَحلِها، جِبالِها والفَيَافِي، لَمْ تَقعُدْ بِهِ المَآسِي وَلَم تُفَرِّقْ شَملَهُ النَّكَبَاتُ َرغمَ تَشَتُّتِهِ في كُلِّ أَصقَاعِ الدُّنيَا وَبِقَاعِ اللُّجُوءِ، بَلْ آَمَنَ وَمَا زَالَ -وَكَانَ إِيمَانُهُ نَوعًَا مِن هَدمِ الحَقَائِقِ وَجَرفِ الوَقَائِعِ لِمصَلحة عَينِ الثَّوابِتِ ولَو كَانَ في ذِهْنِ الخَيالِ- بِأَنَّ مِفْتَاحًَا طَوَى عَليِهِ القَلبُ أَستَارَهُ وَعَاشَ في كَنَفَ الجَوانِحِ يَقُصُّ الحَكَايَا على القَادِمِينَ في رَحِمِ الضَّيَاعِ؛ حتَّى تَنَقَّلَ يَفتَتِحُ كُلَّ الصُّدُورِ لِيُدَشِّنَ فِيهَا صُورَةَ الأَملِ الجَميلِ عِشقًَا بَاتَ يَسرِي طَيفَهُ مَعَ الأَجيَالِ؛ لَاُ بدَّ لَهُ مِن عَودةٍ مُظَفَّرةٍ تَطُوعُ فِيها أَعناَقُ مُسَلَّماتِ الزَّيفِ لِتَنْحَنِيَ صَاغِرةً أَمَامَ قَدَاسَةِ الحَقِّ المُتَيَّمِ بِهِ مَلايينُ المُهَجَّرينَ قَسْرًَا عَن بُيوتَاتِهم التي أَضْحَت خَرابًَا وَمَعْلَمًا لِلدَّمَارِ، بَعدَ أَنْ كَانَت شَاهِدَةً على بِساطِ الطِّيبِ الّذي اجتَمَعتْ عَليِهِ حَلَقاتُ السَّمَرِ وَفَزعاَتِ الحَصِيدِ في سِنينِ الخَيرِ المَاضِياتِ.

بَاتَ يَتَعايَشُ مَعَ العَذاباتِ حتَّى اضْمَحلَّتْ مَساحَةُ الفَرَحِ لَديهِ، وَضَاعَت تَفاصِيلُ سَعادَتِهِ وَنَشْوةُ السُّرُورِ التَّي تَعَارَفَ عَليهَا البَشَرُ، فَأصبَحَت نَوعًَا مِنَ التَّرَفِ الغَريبِ والبَذَخِ المُستَهجَنِ، فَتَشَكَّلت تِبعًَا لِهذهِ الصُّورَةِ الشَّوهَاءِ تَفاصِيلُ جَدِيدَةٍ تَحمِلُ مَعَهَا تَلخِيصَ هَذهِ المَأْسَاةِ، فَالتَّنقُلُ مِن مَدينَةٍ لِأُخرَى دُونَ المُرُورِ عَبْرَ حَاجِزٍ تَقِفُ عَلى عَينِ الذُلِّ فِيهِ هُوَ مِنَّةٌ وَأُعطِيَةٌ، أَمَّا سَفَرُ أَحَدِهِم لِلخَارجِ دُونَ مُعِيقَاتٍ هِيَ كَرامَةٌ لَدَى غَيرِهِ فمُعجِزَةٌ، مَعَ ذَلِكَ جَعَلَ لَهُ مَفهُومَهُ الخَاصُّ فِي ابْتِدَاعِ أَسْبابِ المَبَاهِجِ وَاحْتِسَابِ ذَلِكَ فِي حَيِّزِ السَّعَادَةِ المُرتَجَاةِ، فَالشَّهِيدُ يُزَفُّ فِي مَوكِبٍ عَرَائِسِيٍّ بَهيجٍ مَصحُوبٍ باِلتَّهانِي وَالأَمَانِي وَمُبَاهَاةِ ذَوِي القُربَى مَعَ أَنَّهُ قَضَى وَلَنْ يَعُودَ، وَالأَسِيرُ لَا َيحلُمُ بِالحُرِيَّةِ مُشتَاقًَا بِقَدَرِ شَوقِهِ لِوَجِهِ أُمِّهِ بَاسِمَةً لَهُ مِن وَرَاءِ جُدُرِ الزُّجَاجِ فِي يَومِ زِيَارَةٍ بَعدَ حِرْمَانٍ طَويلٍ، أَمَّا الأَطْفَالُ فَلا يَعرِفُونَ مِنَ الأَلعَابِ إِلَّا مَا دَخلَ مِنهَا فِي حَرب الشَّوارِعِ بَينَ فَرِيقِ اليَهُودِ وَالعَرَبِ، وَكَذَا الأَحزَانُ وَالمَواجِعُ بَاَت لَهَا لِذَّةٌ وَطَعمٌ مُحَبَبٌ، وَدَافِعٌ تُوجِدُهُ فِي النَّفسِ لِتَحَدِّيها، وهُنَا مَكمَنُ المُتعَةِ فِي هَذهِ المُشَاغَلةِ، صُوَرٌ لَا يُدرِكُ مَعَانِيَها وَلَمحَات لَا يستَوعِبُ مَرامِيَها غَيرُ مَن رَأَى وَسَمِعَ، شَاهَدَ أَو صَنعَ بَعضًَا مِن حَكَايا هَذا الشَّعبِ، فَسَلَامٌ لِهَذِي الأَرضِ الّتي أَبدَعَت طِيبه وَتَراتِيلَ أَعَاجِيبِهِ.