بدأت خيوط الثورة العربية الكبرى (كما تُسمى) تتشكل بعد دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى عام 1914م إلى جانب ألمانيا، وهو ما دق جرس الإنذار لبريطانيا، وحذَّرها من خطورة الموقف؛ فكان لا بد من إحداث التغيير الجذري الذي يضمن بقاءها.
فذكرت الوثائق البريطانية التي رُفعت عنها السرية وتتعلق بتلك الحقبة أن الخطر تمثل آنذاك في "الخوف من ثورة المسلمين في مصر والهند ضد الوجود البريطاني وإحياء فكرة الوحدة الإسلامية مجددًا"، فكان لا بد من استئصال شأفة ذلك بإضعاف الحكومة العثمانية؛ وقد كانت الوحيدة في تلك الآونة القادرة على إعطاء زخم لفكرة الوحدة الإسلامية، وبالتالي انحياز جميع المسلمين لها وللقتال في صفوفها، الأمر الذي حدا بالبريطانيين إلى بدء مراسلات طويلة مع شريف مكة الحسين بن علي (وسميت مراسلات مكماهون الشريف حسين، لمن يرغب بتتبع الأمر)، لتشجيعه على الثورة ضد الوجود العثماني في الحجاز، إذ خاطبوه بألفاظ التعظيم والتشريف ووعدوا بتنصيبه خليفة للعرب، لأن عروبته وأصوله النبوية المباركة تؤهلانه لذلك، وتجعلانه الأنسب لهذه المهمة العظيمة!
أمدت بريطانيا الشريف حسين بالمال والسلاح، وأمدت أبناءه بالتبغ، وعززت جيشه بأعداد كبيرة من الأسرى العرب الذين كانوا يتبعون الجيش العثماني، ليشعل شرارة الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية ويقود خطامها، حتى تمكن من السيطرة على بلاد الحجاز، أما ابنه فيصل فقاد جزءًا من الجيش العربي الطامح إلى حكم عربي لبلاد العرب، وتوجه به لدمشق لتحريريها من أيدي العثمانيين، وتمكن من دخولها بالتنسيق مع البريطانيين.
وأمام الانتصارات السريعة (بمساعدة بريطانيا) التي حجَّمت النفوذ العثماني في الحجاز، وحالت دون تجميع المتطوعين للقتال في صفوف الجيش العثماني، رفض الشريف حسين إعلان الدعوة للجهاد ضد بريطانيا!، حتى بعد أن انكشفت خيوط معاهدة سايكس بيكو، صدق الشريف حسين بكل سذاجة خدعة البريطانيين، حين أقنعوه بأنها مجرد تفاهمات على الورق لا أساس لها من الواقع، وبارك لهم سيطرتهم على مدينة القدس معتقدًا أنهم سيضمون المدينة المقدسة لمُلكه المنشود، أليس هو من السلالة النبوية؟!، ألا يحقُّ له ذلك؟!
وانتهت الحرب العالمية الأولى، وأُضعفت الدولة العثمانية فأصبحت رجل أوروبا المريض المحتضر، الذي يعد من حوله له الأنفاس ليسارعوا إلى دفن جثته واقتسام إرثه، وامتنع الشريف حسين عن توقيع معاهدة فرساي التي حضرها ابنه فيصل باسمه؛ لأن الدول المنتصرة تجاهلت حق الشعب العربي في تقرير مصيره كما بقية الشعوب الأوروبية الأخرى التي شملتها الاتفاقية، وبدلًا من امتلاك حق تقرير المصير، احتلت الجيوش الفرنسية سوريا، وطردت منها فيصل نجل الشريف حسين، وفرضت بريطانيا الانتداب على فلسطين، ومنحت اليهود وعد بلفور وبدأت في توطينهم، ولم يكن الشريف حسين ليقبل تلك الإجراءات التي تُجرِّده من حلم عاش في جنباته حتى ظنه أمرًا واقعًا لا لُبس فيه، فما كان من بريطانيا إلا أن تخلت عنه، وعمدت إلى دعم عبد العزيز بن سعود أمير نجد، الذي لم يتوانَ في اجتياح الحجاز عام 1924م والسيطرة عليها، فهرب الشريف حسين إلى العقبة، ولكن الإنجليز أجبروه على مغادرتها ليعيش في منفاه الاختياري بقبرص.
ومنذ تلك الأحداث الكبرى التي عصفت ببلاد العرب وأوجدت للمحتلين موطئ قدم يرتكزون عليه ليشرعوا في بناء دولتهم اللقيطة على دمائنا وجماجمنا وأرضنا حتى اللحظة، ما يزال قادة دول العرب يتسابقون لاسترضاء الدول الكبرى التي تبذل وسعها لتثبت وجود الصهاينة في فلسطين وتأمين مصالحهم وضمان الموارد الاقتصادية لهم، فلا يصيبنا العجب من تسابق الحكومات العربية الواحدة في إثر الأخرى في التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب، فالمتتبع التاريخ يُدرك تمامًا كيف فتِّتت الأراضي العربية إلى دويلات يقدس كل منها حدودًا وقطعة قماش ملونة يدَّعيها راية لنفسه يرافق رفعها أنغام موسيقية يقفون لعزفها لأنهم يظنون أنها تمثلهم، وعلى كل شبر أرض منها قائد يعيش ليبقى زعيمًا ولا يُزحزحه عن عرش البلاد إلا دابة الأرض تأكل منسأته، أو رصاصات السادة إن هم غضبوا منه ذات مرة.
وكان هذا هو الضمان الوحيد لبريطانيا لتتمكن من غرس دولة الصهاينة المدَّعاة في سويداء القلب العربي، دون أن تجد منْ يحارب هذا الوجود، ويسارع إلى استئصال شأفتها، وبتر العضو الذي سيطر عليه الخبث وتخليص الأمة من شرِّه، واستمرت في إعطاب خلايانا وصولًا بنا إلى الدمار الكامل.
فليس غريبًا على دول تعتمد سياسة "فرق تسد" أن تدعم الشريف حسين ليقاتل الدولة الحاكمة المسلمة، وتدعه يعيش في أحلام المُلك والسيطرة، حتى إذا انتهت من العدو الأكبر تنكرت له وفتكت به، لتكون الرسالة واضحة تمامًا لكل من يأتي بعده: الولاء المطلق لنا ولبني صهيون وإلا...!