بعد أكثر من أسبوع على حادثة "مقام النبي موسى" جنوب مدينة أريحا في الضفة الغربية، يمكن القول إن تفاعلاتها ما كانت تصل لهذا المدى لولا أن وقع غضبة الشارع الفلسطيني على إقامة حفل صاخب في المكان كان واضحًا وقويًّا وقادرًا على إحراج وإدانة حكومة السلطة الفلسطينية، حتى رغم كونها بحثت عن كبش فداء لتحميله وزر ما جرى، وهي منسقة الحفلة الموسيقية (سما عبد الهادي) التي جرى اعتقالها، في حين تنصل المسؤولون الحقيقيون من الأمر، وهما وزارتا السياحة والأوقاف اللتان منحتا الإذن بإقامة الحفل، أو على الأقل لم تكترثا لدلالات أن يقام حفل موسيقي راقص داخل مكان ديني.
لماذا كانت تلزم هذه الجرعة العالية من الغضب مما جرى؟ وهو غضب بدأ حين تدخل شبان مقدسيون بالذهاب للمقام وإيقاف الحفل وإخراج المشاركين، ثم حينما تفاعل الحدث على مواقع التواصل الاجتماعي بالإدانة وإنكار ما جرى، حتى وجدت حكومة السلطة نفسها ملزمة إصدار تصريح حول ما جرى، رغم كونه تصريحًا خجولًا فيه من إشارات التنصل من المسؤولية أكثر مما فيه من التوضيح أو الاعتذار.
كان يلزم كل هذا الغضب لأن السلطة بكل سياساتها المتبعة في الضفة، وخصوصًا منذ نحو أربعة عشر عامًا كانت تحيِّد المساجد والمراكز الدينية عن رسالتها، وتهمش دورها، وتلاحق روادها الفاعلين، محاولة أن تورثها دورًا نمطيًّا باردًا وباهتًا، ما يعني أنها لن تكترث من قريب أو بعيد لو تحوَّل مكان ديني أو تراثي إلى مرقص أو فندق سياحي، أو لو تم المساس باحترام وهيبة الأماكن الدينية، وتحديدًا المساجد، فالمساجد في فلسطين تحوَّلت بفعل سياسات السلطة إلى أماكن لإقامة الصلوات وحسب، وغدت مزروعة بعيونها الذين يراقبون تحركات روادها ونصوص خطب الجمعة كل أسبوع، بعد أن كانت المساجد مراكز الانتفاض ضد الاحتلال، والمحرضة على الجهاد، ومخرجة أجيال من حفظة القرآن، والقائمين بشأن الدعوة والثورة على المحتل، حتى أن الانتفاضة الأولى سُمِّيت في بعض الأدبيات بثورة المساجد.
صحيح أن السلطة الفلسطينية، كحال كل الأنظمة العربية من حولنا، تنتهج القمع والإكراه لفرض سياساتها، حتى تلك المناوئة لوعي الناس وفطرتهم الدينية، إلا أنها لا بد أن تتراجع، إذا ما ووجهت بغضبة شعبية قوية ومؤثرة، كما حصل مؤخرًا وكما يحصل مع كل سلطة يتمكن الشارع من إلزامها التراجعَ عن بعض سياساتها.
ولعل ما جرى فرصة لكي يُعاد تأكيد بدهية لكون الشعوب الحية ضامنة لحقوقها من أن تستباح ولحرماتها من أن تنتهك، ولكي نعي مجددًا أهمية عدم الاستهانة بالجهد الجمعي حين يوظف في سياق مثمر، منطلق من قدرة الناس على إبصار مكامن قوتهم وآفاق تأثيرهم، ثم جدارتهم بصناعة التغيير إذا أحسنوا استثمار كل لحظة تمكنهم من إعادة الاعتبار لصوت الشارع، حين ينحاز لهويته وفطرته، ويعيد ترسيم خطوطه الحمراء، ويحميها من الانتهاك أو المساس.
في فلسطين، وتحديدًا في الضفة الغربية، ثمة حاجة ماسة لأن تستعيد المساجد دورها، وأن تستأنف حمل رسالتها كمحاضن للتربية والإعداد، لأن الخضوع سابقًا لكل إجراءات القمع بحقها أفضى إلى سلبيات شتى، على النطاقين الاجتماعي والسياسي، وصولًا إلى مجال مقاومة الاحتلال، الذي سيظل ناقصًا وأعرج الخطوات، ما بقيت المساجد محاصرة ومقيدة، وممنوعة من تأدية رسالتها الكاملة والحقيقية.