فلسطين أون لاين

الثورة بين الماء والحليب

في الذكرى السادسة والخمسين لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، خطر في بالي لقاء جمعني والراحلة الروائية الناقدة المصرية رضوى عاشور، تساءلت فيه عن المدى الزمني اللازم للتغيير بين ثورةٍ لم تحقّق أهدافها كاملة، لكنها ما زالت تداعب مخيلتنا ونتعلق بأهدابها، وأخرى نرنو إليها، ونتعجّل شرارتها، ونقف مشدوهين أمام عدم اشتعالها، مع اقتناعنا بأن السيل قد بلغ الزُبى، وأن الظرف الموضوعي يحتم بدايات جديدة. 

لم نستطع الإجابة عن سؤال الزمن اللازم ليستجمع الشعب قواه، فثمّة إرهاصاتٌ تتكرّر وهبّات تشتعل عند كل منعطف، من دون أن تؤدّي إلى تغيير شامل، ومن دون أن تمكّننا من حسم هل نشهد حراكًا لا يلبث أن يخفت، أم نقف على أبواب ثورةٍ انطلقت بعد تراكم الهبّات وتصاعدها، عددنا السنوات ما بين ثورة عرابي في مصر وثورة 23 يوليو، فكانت نحو سبعين عامًا، وما بينها وبين إطاحة حكم حسني مبارك فكانت قرابة ستين عامًا، وفي فلسطين، انطلقت حركة فتح في 1/1/1965م، بعد 17 عامًا على نكبة عام 1948م، لكن اتفاقية أوسلو ما زالت جاثمة على صدورنا منذ نحو ثلاثين عامًا، وما كان محرّمًا قبلها أصبح اليوم مباحًا، والمضحك المبكي في الحالة الفلسطينية أن الثورة المجيدة، والتنسيق الأمني، كليهما صدرا عن الحركة ذاتها، مع اختلاف الزمان والرجال.

تحدّث البيان الأول للقيادة العامة لقوات العاصفة عن عملية عسكرية دُمر فيها نفق عيلبون، وهي عملية لم تُنفّذ، على عكس ما هو شائع، بسبب صعوبات واجهت المجموعة الفدائية، لكن بيانها كان قد أُعد سلفًا، ووُزّع على الإعلام فور انطلاق المجموعة إلى هدفها، في حين أن مجموعة ثانية نفّذت في 7/1/ 1965م عملية عسكرية استهدفت بعضًا من منشآت تحويل مجرى نهر الأردن، وقد اعترف العدو الصهيوني بهذه العملية، إلا أن نفيًا للبيان الأول لم يصدُر، واستمرت فتح تحتفل بذكرى انطلاقتها، وبعمليتها الأولى، في الأول من كانون الآخر (يناير) من كل عام. وعلى مدار أعوامٍ سابقة دأب كاتب المقالة على نشر مقالاته بهذه المناسبة، التي حملت عناوين من مثل: "فتح: تبديل القاطرة أم تغيير السكة؟"، و"فتح في عيدها الخمسين: بقيت الفكرة"، و"ماذا تبقى من فتح؟"، وجميعها لا تخلو من إشارة إلى أن حركة فتح التي نراها اليوم هي غير "فتح" التي نعرفها، ومثير للدهشة أنها على الرغم من تبدّل شعاراتها من "فتح ديمومة الثورة وشعلة الكفاح المسلح"، الذي رافق احتفالاتها وزيّن ملصقاتها وأكدته ممارستها العملية أعوامًا عدة، إلى شعاراتٍ تتمحور حول الولاء والانتماء، ما زالت تحظى بامتداد جماهيري واسع، وهي مرشّحة -وفق استطلاعات الرأي العام- للحصول على نسبة كبيرة من أصوات الناخبين، تؤهلها للبقاء في السلطة في أي انتخابات مرتقبة.

ثمّة تحولاتٌ كبرى طرأت على حركة فتح منذ اتفاقية أوسلو، وتعمّقت بعد استشهاد الرئيس ياسر عرفات، وإعادة إنتاج "أوسلو" في عهد الرئيس محمود عباس الذي تميّز باستباحة جيش الاحتلال الإسرائيلي المدن الفلسطينية، وتعميق التنسيق الأمني، وبناء أجهزة الأمن الفلسطينية وفق عقيدة جديدة، وتقليص صلاحيات السلطة الفلسطينية وحدود ما تسمى سيادتها، ونمو الاستيطان، وقضم الأرض الفلسطينية، ما عزّز هيمنة الاحتلال عليها، وتحكّمه بكل مناحي الحياة فيها.

المفارقة أنه في وسط هذا كله يعيش جمهور "فتح" العريض، وجزء كبير من كوادرها، وكأنه منفصلٌ تمامًا عن هذا الواقع، فهو يتحدّث عن "فتح" أخرى غير التي أصبحت تحت سيطرة السلطة وأجهزتها الأمنية؛ يصفق لرفض صفقة ترامب - نتنياهو، واجتماع الفصائل، والمصالحة مع حركة حماس، وقرارات وقف التنسيق وسحب الاعتراف، ويستردّ بها روحه المفقودة، ثم يصمت أمام عودة التنسيق الأمني، من دون أن يحتفي بالانتصار المزعوم الذي قيل إنه قد تحقق، يُصاب بعضٌ بالإحباط، ويصمت آخرون، لكنهم يبقون أبناء لفتح "لا يهتفون لغيرها"، يعيشون على ماضٍ ثوريٍّ مجيدٍ لا يفارقهم، لكنه في المقابل يمنع كثيرين منهم من رؤية واقع الحال، والبعيد كل البعد عن نضالٍ مارسوه، وأفكار خلاقة تربّوا عليها، فنراهم -مثلًا- في الانتخابات النقابية والطلابية يهربون من أسئلة "أوسلو"، والاستيطان، والسلطة، والتنسيق الأمني، إلى "فتح" التي هي أول الرصاص، وأول الحجارة، والطلقة الأولى، التي قدّمت عبر مسيرتها آلاف الشهداء والأسرى والجرحى، وكانت حركة الشعب الفلسطيني بحق.

من العبث أن نبحث عن "فتح" الأولى في الصفوف المتقدّمة لـ"فتح" اليوم، إلا من رحم ربي، هناك انتهت مرحلة الثورة في أذهان كثيرين منهم، أما لدى الجيل الصاعد، والقواعد الشعبية، وعلى الرغم من الهروب من الأسئلة الصعبة حول واقع "فتح" اليوم، ومستقبلها ومستقبل الشعب الفلسطيني غدًا، وما ينبغي فعله، أو التوقف عنده، أو الإقلاع عنه، فما بقي في "فتح" هو أهم ما فيها؛ فكرتها الأولى، ومن الفكرة تندلع الثورة. 

في كل يوم يمر نشهد صدامًا مع جيش الاحتلال، أو اشتباكًا مع المستوطنين، أو غضبًا على التطبيع، أو عمليات طعن بسكين، أو دعس بسيارة، فمتى يتحوّل ذلك إلى انتفاضة شعبية واسعة؟، وكيف نرقب تلك التحوّلات أو نتوقعها؟، تجيب رضوى عاشور بأن الثورة في بلادنا لا تشبه غليان الماء، بل فوران الحليب، فالماء يمكن متابعة ارتفاع درجة حرارته رويدًا رويدًا، لنرى فقّاعاته تتصاعد نحو سطحه تدريجًا، أما الحليب فلا نرى منه غير سطح أبيض هادئ، لا يشفّ عما تحته، ولا نرقب تحوّلاته وتموجاته، لكنه يفور فجأة، فلا تركنوا إلى ما يبدو هدوءًا في فلسطين، أو في عالمنا العربي، فالحليب سيفور يومًا، وتحت سطحه براكين تثور، وإن غدًا لناظره قريب.

 

 

 

المصدر / فلسطين أون لاين/العربي الجديد