جاء إعلان الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، عن اتفاق "إسرائيل" والمملكة المغربية على إقامة علاقات دبلوماسية، ليشير إلى انضمام الرباط إلى موجة "التطبيع الزاحف" التي تعكس تأثير اللوبيات والشخصيات الصهيونية (ولا سيما جهود مستشار الرئيس ترامب وصهره، جاريد كوشنر)، في محاولةٍ لتكريس الحليف الإسرائيلي لاعبًا إقليميًا مهيمنًا، عبر توظيف "انكشاف" النظم العربية، ورغبتها الملحّة في استمرار محورية دور واشنطن في إقليم الشرق الأوسط الذي يشهد علامات تصاعد النفوذ الاقتصادي الصيني، والمنافسة العسكرية/ الاستراتيجية من الدب الروسي، للدور الأمريكي المتآكل تدريجيًا. وفي هذا السياق، ثمّة إشكالات/ تحديات، توضّح أن الرباط قد لا تستفيد كثيرًا من هذا القرار، في مقابل حصول "إسرائيل" المؤكّد على مكاسب التطبيع، مثل كل الحالات العربية السابقة.
أول الإشكالات أن اعتراف الرئيس ترامب بمغربية الصحراء الغربية، في تغريدته على "تويتر"، 10 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، جاءت في شكل إعلان رئاسي (Presidential proclamation).
وعلى الرغم من القيمة "الرمزية" لهذا الاعتراف، فإنه يواجه احتمال اعتراض مجلس الشيوخ في الكونغرس أو السلطة القضائية، فضلًا عن إمكانية تراجع الرئيس المنتخب، جو بايدن، عنه، في ضوء ثلاثة مؤشّرات، أولها احتمال "تفهّم" بعض مساعدي بايدن مطالب "الصحراويين". والثاني بيان وزارة الخارجية الروسية الذي انتقد إعلان ترامب، لأنه قد يعرقل جهود الأمم المتحدة لتسوية مسألة الصحراء، وقد يقود إلى تأزّم العلاقات بين الأطراف المعنية مباشرة، ويؤدّي إلى دورة جديدة من العنف في الصحراء والساحل. والثالث، تصريح الناطق باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، بأن موقف أنطونيو غوتيريش لم يتغير حيال الصحراء بعد إعلان الرئيس ترامب، أي "التوصل إلى حل على أساس قرارات مجلس الأمن".
تتعلق الإشكالية الثانية بتوقيت التطبيع، الذي يتزامن مع تفاقم ممارسات حكومة اليمين المتطرّف بزعامة بنيامين نتنياهو، سواء في فلسطين أو خارجها؛ إذ نجحت دولة الاحتلال، بسبب دعم إدارة ترامب أساسًا، في توظيف تداعيات جائحة كورونا لتزيد نفوذها الإقليمي، وتكثّف ضرباتها الموضعية التي وصلت إلى اغتيال العالم النووي الإيراني، محسن فخري زاده، ما يضاعف من مستويات الفوضى والسيولة في الشرق الأوسط، في الأسابيع الأخيرة من عمر إدارة ترامب. وقد يعني توقيت هذا التطبيع أيضًا تخلّي الرباط عن توازناتها الدبلوماسية السابقة، واحتمال تزايد انحيازها إلى سياسات المحور الأمريكي الإسرائيلي، في إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ومن حيث المبدأ، ينطوي مجرّد إقدام الرباط على التطبيع مع أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرّفًا على مقاربةٍ غير مدروسة، تتجاهل الدروس الاستراتيجية من عمليات التطبيع العربية السابقة، التي تؤكد أن الرابح الأكبر منها دائمًا هو "إسرائيل" التي تتمتع بأغلب "المزايا النسبية" للتسوية والمفاوضات والتطبيع، عبر تحقيق مصالحها الأمنية والاقتصادية، على حساب النظم العربية، التي تكاد تكتفي بـ"جوائز الترضية الرمزية"، وما يتيسر من المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية. وبهذا المعنى، قد يشكّل التطبيع الراهن استكمالًا لمنطق الثورات المضادّة في التنكّر لمطالب الشعوب العربية، والالتفاف على ثوراتها المغدورة، عبر استقواء هذه النظم بمحور واشنطن/ تل أبيب، ضد إرادة الشعوب، ومطالبها في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
تتعلق الإشكالية الثالثة بغياب الاستراتيجية المغربية، وارتباك توجّهات سياستها الخارجية، خصوصًا خطاب تسويق قرار التطبيع مع دولة الاحتلال، والتذرّع بأنه لا يضر بقضية فلسطين، ولا يؤثر بموقف الرباط الداعم للحقوق الفلسطينية، والتلاعب بالمصطلحات (استئناف الاتصالات، وليس التطبيع أو التبادل الدبلوماسي... إلخ)، ما يذكّر بإفلاس مجمل الخطابات العربية حول التسوية والتطبيع، في مقابل التخلّي عن دعم مقاومة الشعب الفلسطيني، لتحصيل حقوقه المشروعة، غير القابلة للتصرف.
بيد أن الطامّة الكبرى هي تجاهل الرباط الانعكاسات الأمنية والسياسية لشرعنة إدخال الفاعل الإسرائيلي إلى الفضاء المغاربي، وتصوّر أن مجرد تغير موقف واشنطن من الصحراء (عبر إعلان رئاسي، كما سلف القول)، يمكن أن يحسم القضية لمصلحة المغرب. ومعلومٌ أن القضية الصحراوية هي انعكاسٌ قديم/ متجدّد للصراع بين المغرب والجزائر، وخصوصًا على صعد سياسات الدفاع والتسلح والاستراتيجيات والسياسة الخارجية في البلدين، ولعل هذا ما يفسّر تصريح رئيس الوزراء الجزائري، عبد العزيز جراد، بوجود "إرادة حقيقية" لضرب الجزائر، وهو ما يؤكّده وصول الكيان الصهيوني قرب الحدود"، في إشارة إلى التطبيع المغربي مع "إسرائيل".
يتساءل بعضهم، محقًّا، عن فائدة تخلّي المغرب عن توازنه الدبلوماسي المعهود، والانحياز غير الموفّق إلى الثلاثي السعودي الإماراتي الإسرائيلي، لكونه يضع الرباط في مواجهة محتملة مع الجزائر وجبهة بوليساريو، ما يؤدّي إلى تصعيد التوتر الإقليمي، جرّاء هذا التطبيع الذي يزيد من شعور الجزائر بأنها مستهدفة أمنيًا وسياسيًا، (تمامًا مثل حالة إيران، بعد تطبيع أبوظبي مع "إسرائيل").
واستطرادًا، في مناقشة خيارات المغرب الاستراتيجية والبدائل المطروحة أمامه، ألم يكن في وسع الرباط أن تنحاز إلى حل مشكلاتها مع جارتها الجزائر، ما يجعل إقليم المغرب العربي في وضع أفضل، من حيث قدرته على مواجهة الضغوط الخارجية، الأمريكية والإسرائيلية والفرنسية والإسبانية وغيرها، بدل إعطاء "إسرائيل" مميزاتٍ أمنيةٍ واستراتيجيةٍ واقتصاديةٍ في الإقليم؟ وأبعد من ذلك، لماذا لا تفكر الرباط في صياغة "خطاب جديد" يركز على استعادة اليهود المغاربة إلى بلادهم عبر "هجرة معاكسة"، وترك فلسطين المحتلة، بوصفه جزءًا مهمًّا من استراتيجيات تفكيك الصهيونية ومقاطعة (إسرائيل)، ودعم قضيتي القدس وفلسطين، ولا سيما أن ملك المغرب هو رئيس لجنة القدس المنبثقة من منظمة التعاون الإسلامي؟
تتعلق الإشكالية الرابعة بأن قرار التطبيع الرسمي لا يعكس أبدًا تطلعات الشعب المغربي، وتضامنه الأصيل مع قضية القدس، التي تجرأت قوات الاحتلال بعد هزيمة 1967 بأيام، على هدم "حيّ المغاربة"، بتاريخه الممتد في جغرافيا القدس الشرقية. واللافت أن السلطات المغربية سمحت لمؤيدي اتفاق التطبيع بالتظاهر، فيما منعت تنظيم وقفة احتجاجية دعت إليها ست جمعيات مغربية في 14 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، أمام مقر البرلمان في العاصمة الرباط، احتجاجًا على التطبيع مع "إسرائيل".
ويبقى القول إن كل حالة تطبيع عربية جديدة (الإمارات والبحرين والسودان) تكشف وجهًا آخر لهشاشة النظم العربية وضعفها واتساع الهوة بينها وبين شعوبها، ونجاح استراتيجية المحور الأمريكي الإسرائيلي في فرض إرادته عليها، بوسائل متنوعة، سواء عبر القوة أو الضغوط أو تقديم حوافز/ مكافآت رمزية، في إطار إعادة تشكيل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، على نحو يكرّس حقبة "الهيمنة الإقليمية الإسرائيلية" التي قد تصعب زعزعتها، إلا عبر فعل شعبي فلسطيني/ عربي، يأخذ شكل انتفاضاتٍ وثوراتٍ جديدة، تستفيد من دروس إفشال الانتفاضات الفلسطينية والثورات العربية، وتعمل على تشكيل تحالفاتٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ لتدعيم حركة مقاطعة "إسرائيل" وعزلها، عربيًا وإقليميًا ودوليًا.