فلسطين أون لاين

زوجان ممرضان يعلنان حالة الطوارئ منذ بدء الجائحة

تقرير "محمد" قاتلَ مع مُصابةٍ قبْلَ "هدنة دائمة" و"حنين" استَقْبَلتْ رضِيعًا دونِ أمه

...
الحكيم محمد النجار
غزة/ يحيى اليعقوبي:

للتو وصلتْ مسنةٌ تجرُّ خلفها ثمانينَ سنةً من عمرها؛ يدفعُها الممرضون بخطواتٍ متسارعة تسابق انقباضات نبضات قلبها وشهقاتها اللاهثة المتتالية وهي تحاول حفرَ مجرىً للتنفس في قصبتها الهوائية وكأنها تحفر في نفقٍ مليء بالعوائق، تلتقط أنفاسها الأخيرة وكأنَّ حبلًا يلتف ليس على رقبتها بل رئتيها اللتين تجثم عليهما مجموعات لا حصر لها من فيروس كورونا مثل ضباع متوحشة تنقض على فريستها بأعداد هائلة.

دخلت المسنة غرفة العناية المركزة بمستشفى غزة الأوروبي جنوب قطاع غزة، استقبلها الحكيم محمد النجار (31 عامًا)، وهي تعاني نقصًا حادًّا في الأكسجين فأوصلها بجهاز عالي التركيز يعطي نسبة عالية بالأكسجين نحو 50 لترًا كل دقيقة، لكن المسنة المختنقة تريد التنفس، تريد زيادة أعلى، تستنجد بالممرض بأنفاس وصوت لاهث: "حبيبي يا ابني، بدي أشوف ولادي، بدي أتنفس".

 تواصل نبضات قلبها الصعود والهبوط بأعلى سرعة يمكن أن تتخيلها، في حين هي تتشبث ببريق أمل خافت: "أمانة ارفع الأكسجين، بدي أشوف أولادي"، بدوره استدعى الحكيم الطبيب، أظهرت صورة الأشعة أن هناك تهالكًا في الرئتين وأن الفيروس قد نجح في اجتياحهما ويفرض عليهما حصارًا، قطع فيه كل خطوط الإمداد من أنحاء الجسم كافة، واستفرد برئتي المسنة نهشًا وقضمًا، لا يرأف بضعفها وقلة حيلتها، في الأعلى يخوض الحكيم والطبيب معركة لإسعافها، يدنو قلبهما منها، لم تمر سوى ساعات، حتى سكتت أنفاس المسنة، وكأنها أعلنت هدنة دائمة مع الفيروس الذي انتصر على ضعفها وفارقتها روحها، لا يزال صوت أنينها الأخير يدوي صداه بداخله.

أصوات وطنين لا يهدأ

في داخل غرفة العناية المركزة، التي يعمل فيها الحكيم محمد منذ عدة أعوام، تسمع على مدار الساعة صرخات المرضى، وأنينًا لا يتوقف منهم، يرافقه صوت طنين أجهزة (المونيتور) والتنفس الصناعي، هنا الجميع متساوون، فالمرافق للمريض هو مصاب مثله بالفيروس.

لا تغفو عيون الممرضين والأطباء عن متابعة معدلات الأكسجين القادم من محطة التزويد بالمشفى خوفًا من حدوث عطل أو تدنٍّ في نسبة الأكسجين الواصل من المحطة، "لتجهيز الأسطوانات في حال حدوث أي عطل"، يصارعون الزمن والوقت في وصل الأنابيب على أفواه المرضى، الضغط شديد على استهلاك أكسجين المحطة، فقد يحدث انقطاع ثواني أو دقائق، وسط أنين المرضى واستغاثتهم يحاول الممرضون مدهم بشريان الحياة ورفع نسبة الأكسجين أمام تهالك الرئة والحويصلات الهوائية.

تدرب محمد ضمن الفريق الطبي الأول لمواجهة الفيروس، وكيف يقسم المستشفى إلى ثلاث مناطق: آمنة، وخطرة، ومتوسطة، مع إعلان تسلل الفيروس داخل المجتمع في قطاع غزة في 24 آب (أغسطس)، استنفرت الطواقم الطبية، واستدعي محمد للانضمام إلى مقدمة صفوف الجيش الأبيض مدة 14 يومًا، في أكثر الأماكن حساسية بمستشفى غزة الأوروبي، ليكون على موعد للغياب عن زوجته الممرضة حنين (31 عامًا) التي تعمل بمستشفى آخر.

زوجته تولت مسؤولية ثلاثية الأبعاد في غيابه، ما زالت جاثمة على حياتهم اليومية حتى اللحظة، تقول لصحيفة "فلسطين": "كان الاتصال بمحمد مفاجئًا، وأعطي مدة ساعة لتجهيز نفسه ومغادرة المنزل، كان التحدي أمامي كيف سأقنع أطفالي وأن أوصل لهم فكرة أن والدهم سيغيب أسبوعين، وهم متعلقون به".

بين نبرة صوته وتلك الأيام مسافة شهرين ورحلة اشتياق، ينوب عن زوجته في تحريك مشهد غيابه عن شريط الماضي القريب: "ونحن بعيدون عن أهلنا، كنا نسترق مدة الراحة للتواصل معهم، نطمئنهم أننا بخير، كي تهدأ مخاوفهم، وبعد انتهاء مدة العمل حجرنا أسبوعًا في أحد الفنادق، وأسبوعًا آخر في البيت، ثم عدت للدوام، ولكن بنظام مختلف، بحيث أغادر المشفى يوميًّا إلى بيتي".

"تخيل أنك تداوم بالمشفى وتعالج مصابي كورونا، ثم تعود للبيت، كانت الأمور بدايةً صعبة، أن تكون في قلب المعركة وتمارس جميع مهامك التمريضية، ثم تعود للبيت وأنت تحمل كل خصال الخوف معك"، مر شهران على هذا الحال، حتى عاد محمد في أحد الأيام يشتكي أعراضًا تشابه أعراض الإصابة بالفيروس، وأخذت منه مسحة تحليلية.

فراق مؤقت ورسالة "صادمة"

عاد الحكيم وقد فارقته حاستا الشم والتذوق، يصاحبه "شعور غريب" تعب، وإرهاق، "أهي أعراض كورونا أم مشقة العمل والمناوبة الليلة؟"، غفا على تلك المخاوف التي دقت عتبة باب قلبه، تحتاج لما يؤكدها كي تجتاح بيته.

 الثالثة فجرًا، استيقظ على صوت رسالة هاتفية دوى صداها بكل الاتجاهات داخل غرفته، ينظر بنصف عين ولا يزال النعاس يجثم عليها، قبل أن تتسع عيناه بكامل أحداقها إلى نص الرسالة: "نوصيك بحجر نفسك لإصابتك بكورونا"، وذيل المختبر المركزي توقيعه عليها.

رسالة حملت معها الصدمة لزوجته وأطفاله، حجرت العائلة نفسها دون تشديد من أي جهة، وإنما لاقتناعهم أن المرض خطِر، وأن عليهم حماية أنفسهم، فمرت الأيام الأولى صعبة، خاصة على أطفالهم الذين كانوا يعلبون مع أقرانهم، حارت الأم التي تروي التفاصيل "الصعبة" كيف ستغلق الأبواب على أطفالهم دون أن يشاركوا الأطفال في اللعب، كانت صارمة أمام بكائهم الشديد لأول مرة، لكن هذه الرسمة التي رسمتها ابنتها ألين (6 أعوام) مزقت قلبها، أجهشت معها بكاءً، في إطار الرسمة طفلة حزينة داخل صندوق، وطفلتان تعلبان خارجه، جسدت بها الطفلة واقعًا عاشته العائلة.

حالة طوارئ تعيشها العائلة منذ بدء الجائحة، وهو ثمن كانت تعلمه الزوجة الممرضة: "منذ أن تقدم لخطبتي كنت أعلم أن حياتنا المهنية سيكون فيها الكثير من العناء، ومنذ زواجنا لم نجلس بالبيت مدة أسبوعين دون دوام، زاد الضغط في مدة كورونا، في حين هو يعالج المصابين أتعامل أنا مع الأطفال الخدج في المستشفى "الإماراتي" بوضع طارئ، وفي اليوم الذي أكون في الدوام يجلس محمد مع الأطفال، ويكون عائدًا من مدة مناوبة، فيضطر إلى تحمل الضغط وألا يرتاح، والعكس حينما يكون بالدوام أجلس مع الأطفال".

تعمل حنين في أكثر الأقسام حساسية، مواقف عديدة مرت بها، لكن ذاك الطفل حديث الولادة الذي وصل إلى القسم دون أمه لإصابتها بفيروس كورونا، أعادها لأجواء مختلفة تجمعت فيها كل خصال الحزن وأشياء أخرى تضيفها: "شعرت بشعور الأمومة، وحزنت على حال الطفل، خاصة أنه يحتاج للرضاعة من حليب أمه، ويشعر بحنانها، لكنه بدأ حياته بالحليب الصناعي وبعده عن حضن والدته الدافئ، فكنت أعتني به، وأقوم بتغذيته والاعتناء به على الدوام"، انتهى الموقف وعاد الطفل لأحضان أمه بعد تماثله للشفاء، أما هي فتعيش مخاوف الإصابة من جديد، وخوفها أن تحمل هي العدوى إلى بيتها مرة أخرى.

 

 

المصدر / فلسطين أون لاين