فلسطين أون لاين

سوسنيات

...
الأسير سعيد ذياب

ادَّعى الحُبُّ على الألم فاحتكما لدى القاضي، فقال الحب: "سيّدي القاضي، لا أزال أتحايل على المتحابين، وأُغريهم بجميل الخواطر وصور شتّى، أُزيِّن لهم سبل الوصال، وأُقيم ما بينهم صروح الوداد، ومنها أُمدُّ جسور الهيام، كي يهتدوا بها إلى خفقاتِ قلوبهم، وسكناتِ نفوسهم، حتى إذا ما ائتلفا وتعانقا وانسكبا روحًا واحدةً في جسدين، وسارا ينخران عباب الحياة، بحثًا عن شواطئ الأمان ومنتهى السكن، جاء الألم وأقحم نفسه بينهما وركب مركبهما وألبسهما من بعض أسماله، وجنون تقليعاته، وأفاض عليهما من فنون صرعاته وألوان شطحاته، ثم وقف غير آبهٍ بأوجاعهما، وخلجات أحزانهما وتأوهات أحشائهما، فنظر القاضي إلى الألم ثم سأله: "ما ردك على الدعوى؟".

أجابهُ وقد غمرته سحائب الحزن: "لا أنفيه يا سيدي بل أُقِرُّه، وإنَّ لي في ذلك مذهبًا سأجلِّيه لكم، غَير أَنِّي وأنا أُقِرُّ بذلك أُعلن أني مصلحتهما أُريد وسعادتهما أبتغي، وليس شيءٌ أرجى عندي من بقائهما بجلائل الحب ومراكب الغرام".

ثم أرخى بنظره إلى المجهول وأضاف: "لو أنَّ الماء بقي على ركوده لأسِن، والهواء لو حشر بين الجُدر لتغيَّر وفُتِن، وكذا الطعام ترك على حاله لجفَّ وعَفن، صيرورة الحياة في تقلبها وجريانها، وما بين جريانها وتقلبها صورٌ شتى، لا تستوي على حال أو تثبت عليه، جمالها يكمل في مغالبة فصولها، وفصولها تتقلب بين برد العواصف ولمع القواصف، وحر الهواجر وزهر العواطف، فديمومة السير في مناحيها لا تتجلى إلا في معالجة صروفها، ومقارعة سهام حتوفها، فالنفوس تقتلها الرتابة ويخنقها الجمود، تهوى مشاكسة الحبيب يومًا، وتكره زيف التكلف دومًا، وتعشق الصدق، وإنْ في حمأة الغضب، ولا يقنعها الكذب، وإنْ في برود التبسط".

ثم أطلق تنهيدةً وأضاف: "لولا شرارة الحب ما تولدت لواعج القلوب، ومن دون خلاصة الألم ما استمدت شعلة العواطف زيف بقائها، ولذوت في غمرة الأيام وابتلعها القدر المحتوم، لولا ألم الفراق لما جاءت حرارة العناق، ومن غير دمعة الحنين ما احتدينا إلى لوعة الاشتياق، فإنّ من لم يعرف حرقة المعاد، فلن يدرك لذائذ الوصول، ومن لم يخبر زفرات السُهاد، فهيهات أن يكون لهُ حصول"، ثم سكت.

أطرق القاضي مليًا مما سمع، ثم نطق بالحكم وكان فيه العجب، كعجب الدعوى والمُدَّعَى عليه والمُدَّعِي، حكم ببلاهة الحب، وبراءة قصد الألم، ثم أضاف: "ويبقى الألم قرين الحب في كل مكان وزمان".

ومن يومها يتلازمان ، ببلاهةٍ وبراءةٍ، لا يفترقان.