وافق المغرب على إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع (إسرائيل) وفق ما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقد صاحب الإعلان اعتراف أمريكي بسيادة المغرب على الصحراء المغاربية، في حين نقلت مصادر أمريكية عن قرب عقد صفقة محتملة لتزويد الرباط بطائرات مسيرة، هذا الإعلان الصادم للشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة يزيد من حجم المخاوف المتنامية، من تحول البلدان العربية لولايات ممتدة ضمن الإمبراطورية الصهيونية العظمى التي تزداد قوة بفعل الأنظمة العربية.
لكني لست بصدد إعادة شيطنة التطبيع والحديث عن مخاطره وقد امتلأ الفضاء كتابةً وتحليلًا في الأمر، فما يثير فضولي هو رغبة العرب في تقديم مواقف سياسية تاريخية مقابل أثمان زهيدة، فقد بحثت مطولًا فيما نشر حول الاتفاق الجديد، فوجدت أن المغرب قدم هذا الموقف مقابل الاعتراف الأمريكي على السيادة لجزء من أراضيه، وبعض الوعود لإتمام صفقات على رأسها صفقة الطائرات المسيرة، وخطوات متعلقة بالاستثمار.
فما حاجة المغرب لهذه المسيرات؟! وهل ما يروج في العلن يخالف تمامًا ما يكون في الخفاء؟! ألا يذكركم هذا بالوعد الذي قدم للإمارات حول إمكانية بيع طائرات F35))، والذي وُوجِه بمعارضة إسرائيلية شديدة، ورفض أمريكي من مستويات مختلفة؟ فمن الطبيعي أن المغرب لم يكن بحاجة لهذه المسيرات كأولوية لإحداث نهضة عسكرية في البلاد، والمغرب لم تستخدم طائراتها الحالية التي أكلها الصدأ في أي حرب ضد (إسرائيل) أو حتى ضد أي عدوان يتهدد البلاد العربية أو الاسلامية، أو يتهدد مصالحها الوطنية حتى تطالب بطائرات جيدة.
ألم يكن بالإمكان شراء هذه الطائرات أو حتى إمكانية تصنيعها أو حتى تجميعها في المغرب؟ وما الذي يمكن أن تضيفه الاعترافات الأمريكية بالسيادة إلا مجرد اعتراف رمزي يمكن أن يتغير بتغير مواقف الإدارات المقبلة، وهذا ديدن الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي أدارت ظهرها لحلفائها وتخلت عن ملفات عدة وتراجعت عن مواقف سياسية مختلفة، ولا يعدو الموقف الأمريكي سوى تصريح سياسي بلا قيمة كاعتراف ترامب بأن الجولان أرض إسرائيلية مثلًا.
ألا يكفي أن يكون انسحابها من الاتفاق النووي دليلًا؟ وما زالت القضية الفلسطينية شاهدًا على تغير المواقف أيضًا، وقد تنكرت هذه الإدارة لكل الجهود التي بذلت في السابق والتي سببت حردًا فلسطينيًّا ممثلًا بالسلطة نتيجة الموقف الأمريكي الجديد، والذي بموجبه نسفت كل التفاهمات والرؤى السابقة، واستبدلت بتبني المواقف والرؤى الإسرائيلية، ما أصاب السلطة بخيبة أمل من إدارة ترامب بعد انهيار الآمال في إحداث تقدم ملموس في مسار التسوية.
فكان الأجدر على المغرب أيضًا ألا يرتهن للاستثمارات الأمريكية المشروطة بالمواقف السياسية، وأن يسعى لتعزيز اقتصاده من خلال توثيق التعاون مع محيطه العربي والإسلامي على الأقل أو البحث من خلال الأسواق الصينية والأوروبية أو حتى الأمريكية دون تقديم ثمن سياسي، وما الذي يدفعه للقفز إلى مسار التطبيع بشكل مفاجئ وفي آخر أيام للرئيس الأمريكي ترامب؟ فهل التوقيت كان مهمًّا؟
في الحقيقة قد يكون الإعلان صادمًا لكن الخطوة لم تأتِ مفاجِئةً، فقد جاءت ثمرة لاتصالات وزيارات ومباحثات مباشرة على مدار سنتين تمت مع الإدارة الأمريكية، ونحن لا نتجنى على أحد، فهذا ما أعلنه المغرب على لسان (ناصر بوريطة) وهو وزير خارجية المغرب، لوسائل الإعلام، وهذا هو المعلن لكن ما بقي خلف الستار أن الاتصالات مع (إسرائيل) لم تتوقف والتعاون الاستخباري والأمني على أوجه منذ سنوات.
وحتى التوقيت يأتي في لحظات حرجة يمر بها الرئيس ترامب بعد خسارته في الانتخابات وارتفاع حجم اللوم له من خصومه ومعارضيه لعدم اعترافه بالهزيمة، وحاجته لتعزيز حظوظه مستقبلًا من خلال تسويق ما يصفه (بالإنجازات التاريخية)، ويتزامن ذلك مع مأزق سياسي وقضائي يمر به نتنياهو.
وبقي لنا أن نقول إن المحرك الأساسي خلف التطبيع والتقارب مع (إسرائيل) هو تقديم ولاء الطاعة في محاولة لتثبيت دعائم الحكم، وحماية العرش الملكي أو الجمهوري أو الرئاسي، وسموا ما شئتم عند العرب فهؤلاء يخشون الاستبدال، ويرتجفون من أي تغيير في المنطقة، ولديهم ثأر سياسي مع شعوبهم، وهم كيانات وظيفية لا تتطلع لإحداث نهضة في بلدانهم، ولا تعنيهم أي دعوات للإصلاح، ويتسابقون لنيل الطهارة الأمريكية الإسرائيلية في مستنقع الخيانة وبئر التطبيع.
لكن شعبنا الفلسطيني ما زال محبًّا للشعب المغربي ويدين له بالفضل على وفائه لقضية فلسطين في ظل غضبه ونقمته على الخطوة المشينة التي تورطت بها الدولة المغاربية، وقد انتظر البعض منا موقفًا ساخنًا أو ساخطًا من السلطة الفلسطينية على خطوة المغرب، فمرت الساعات وكأن شيئًا لم يكن، لتتكشف التفاصيل لاحقًا عن سر الصمت، فقد أجرى الملك "محمد السادس" اتصالًا بالرئيس عباس وأطلعه على الاتفاق، مؤكدًا أن تطور العلاقات مع (إسرائيل) لن يكون على حساب القضية الفلسطينية، وإنما سيكون فرصة لمصلحة السلام.