فلسطين أون لاين

ما حكاية الجزائريين الذين استُعيد رفاتهم من فرنسا في تموز الماضي؟

لن أبدأ الحكاية من استعادة الرفات رغم أنه الحدث الأبرز، وإنما سأبدؤها من التاريخ البعيد الذي حدا بالجزائر إلى أن تقاوم وتدافع عن عرضها ودينها قبل ترابها، فيُقتل أبناؤها وتُحتجز جثثهم.. فهيا بنا معًا في هذه الجولة السريعة:

بدأت أطماع فرنسا الاستعمارية باكرًا في التاريخ الحديث، تحديدًا في القرن السابع عشر، حيث مشت على خطى الإمبراطوريتين الإسبانية والبرتغالية في إنشاء المستعمرات في أرجاء المعمورة في حقبة الاستكشافات. ونافست بذلك بريطانيا المستعمرة التي باتت مستعمراتها تمتد على عرض الكرة الأرض، والتي قالوا عنها إنها "لا تغيب عنها الشمس". أسست فرنسا مستعمرات لها في أمريكا الشمالية والكاريبي والهند، ووقعت سلسلة من الحروب التنافسية آنذاك بينها وبين بريطانيا خسرتها فرنسا، وقلصت من أطماعها. لتبدأ حقبة استعمارية فرنسية ثانية بعد ذلك.

في القرن التاسع عشر، عمدت فرنسا إلى تأسيس إمبراطورية استعمارية جديدة على الأراضي الإفريقية وأجزاء من جنوب شرق آسيا. وسنتناول هنا تحديدًا الجزائر التي نحن بصدد الحديث عن استعادة رفات مجاهديها.

شكلت الجزائر عامل جذب وإغراء لفرنسا لتضع استعمارها على سلم أولوياتها لأسباب عدة، منها موقع الجزائر على البحر المتوسط، وقربها جغرافيًّا من فرنسا، وخيراتها الوفيرة، ووفرة الكوادر البشرية فيها، ناهيك برغبتها الطاغية في استعادة قوتها كدولة مستعمرة.

في عام 1827 كانت الجزائر خاضعة لحكم الدولة العثمانية التي تعاني الضعف، عندما وقعت معركة نافارين التي انهزم فيها الأسطول العثماني يرافقه المصري والجزائري مقابل الأساطيل الفرنسية والبريطانية والروسية، لتصبح المياه الإقليمية للجزائر مفتوحة أمام أطماع فرنسا. وترافق ذلك مع حادثة مروحة الداي، حين ضرب حاكم الجزائر حسين الداي وجه القنصل الفرنسي بمروحته ليحثُّه على الإجابة عن سؤال حجم ديون الجزائر، والتي اتَّخذتها فرنسا ذريعة لحصار الجزائر واحتلالها.

وما إن هلَّ حزيران عام 1830 حتى كانت فرنسا تُحكم قبضتها على الجزائر، لتبدأ فيها حقبة جديدة عنوانها الإذلال ومحاولات التغريب وطمس الهوية.

عمدت فرنسا إلى بذل جهود ضخمة على كل الأصعدة دون استثناء، فالثقافية على سبيل المثال لا الحصر تمثلت في محو الثقافة الجزائرية العربية الإسلامية، وإحلال الثقافة الفرنسية محلها، إضافة إلى فرنسة التعليم ومحو اللغة العربية عبر حظرها وإجبار الجزائريين على استعمال الفرنسية مكانها، حتى إنها قامت بتسمية الشوارع والأماكن والمؤسسات بأسماء فرنسية محضة. وبذلت جهودًا حثيثة لتحويل الشعب الجزائري من الدين الإسلامي إلى النصرانية، وفرضت التجنيد الإجباري على الجزائريين لينضموا لصفوف الجيش الفرنسي وبذلك يحاربون أهلهم ووطنهم بسلاح الفرنسيين ويدافعون عن المحتل بدمائهم.

ناهيك بالناحية العسكرية التي تمثلت في ارتكاب فرنسا لجرائم الإبادة الجماعية واجتثاث كل مقاومة جزائرية منذ ولادتها، واقرؤوا الأحداث التي تقشعر من هولها الأبدان إن شئتم في كتاب "جرائم فرنسا في الجزائر" لسعدي بزيان الذي يعري حقيقة فرنسا التي تدَّعي الديمقراطية والحرية. ورغم ذلك القمع الممنهج الشرس قاوم الشعب الجزائري بكل قوته، وخاض صولات وجولات لم يترك خلالها فرنسا لتهنأ في احتلال وطن فيه شعب عظيم مثل الجزائر.

ومن الجرائم البشعة التي لم تتوانَ فرنسا في ارتكابها، هي التنكيل والتمثيل بأجساد الثوار الطاهرة وكل من يمد لهم يد العون في قتالهم ضد المحتل، وقطع الرؤوس عن الأجساد نكاية بالثوار، حتى لا تصبح قبورهم رمزًا للمقاومة. يقوم المحتلون بعدها بترحيل الرؤوس عبر البحر إلى فرنسا زيادة في الغطرسة والإذلال.

وقد كشفت وسائل الإعلام الفرنسية في عام 2016 عن وجود 18 ألف جمجمة لمجاهدين جزائريين، محفوظة في علب كرتونية في متحف "الإنسان" بباريس، منها 500 فقط معروفة الهوية.

وخلال حفل تقليد رتب لضباط في وزارة الدفاع، بمناسبة الاستقلال أعلن الرئيس الجزائري تسلم رفات 24 شخصًا من مجاهدي المقاومة الشعبية ليُوارَوا تحت ثرى الوطن الحبيب، بعد أن مضى على حرمانهم من حقهم الإنساني في الدفن أكثر من 170 سنة. بعد أن أعدمهم جيش الاستعمار ونكَّل بهم، قبل ترحيل رؤوسهم إلى بلاده.

وتطالب الجزائر منذ سنوات، فرنسا بالاعتراف والاعتذار والتعويض عن جرائمها الاستعمارية التي لا تُحصى، لكن فرنسا تنادي في كل مرة بطي صفحة الماضي والنظر نحو المستقبل!

وأردد هنا سؤال الكاتب الدكتور فايز أبو شمالة: "هل سيغفر شعب الجزائر للقتلة فعلتهم؟ وهل سينسى الجزائريون، ويكفُّون عن المطالبة بمحاسبة الاستعمار الفرنسي؟"

وأوجه سؤالي لمن يبذلون جهدهم للنيل من الإسلام: فهل الإسلام هو من يعاني أزمة، وهو الإرهابي؟ أتمنى أن أجد من يجيبني بحيادية!