لم يكن الشهيد الطفل علي أيمن أبو عليا (13 عاما) الأول الذي يغتاله رصاص الاحتلال، ولا الأول الذي يحفر اغتياله وجعاً وأثراً في نفوس الفلسطينيين، يُترجم إلى تفاعل واسع مع الحدث، ولكن، في هذه المسيرة الطويلة في مكابدة المحتل وجرائمه، ستظلّ لكل شهيد قصته، وأثره الباقي الفريد، وجملة العِبر التي يصنعها دمه حين يغدو نجوماً وضّاءة.
جاءت حادثة استشهاد الطفل أبو عليا بعد فترة وجيزة من إعادة السلطة الفلسطينية علاقاتها مع الاحتلال ومنها التنسيق الأمني، التنسيق الذي لم يفلح حتى الآن في حماية مواطن فلسطيني من الاغتيال أو الاستهداف، ولكنه ظلّ ينجح في حماية أعدائه من وهج مقاومته، التي تُعرّف وجود الفلسطيني على هذه الأرض، وتمنحه الهيبة والجدارة بأن يظلّ مثلاً للأحرار، وتصوغ معاني بقائه وجدوى نضالاته المريرة.
كان نصيب هذه الجريمة الأخيرة من ردود الفعل الرسمية استنكاراً من مؤسسة الرئاسة الفلسطينية، وليس متوقعاً –بطبيعة الحال- أن تستدعي الحادثة إجراءً أعلى، يرتفع قليلاً ليلامس قامة الشهيد، أو يصون شيئاً من كرامة الفلسطيني المستنزفة بطعنات الخذلان.
ضريبة المواجهة كبيرة، وكلفة الغضب عالية، هاتان خلاصتان، يمكن القول إن معركة السلطة الأخيرة الخاسرة قد أفرزتهما، أو كانت معنية بتكريسهما، هي لا تقول هذا مباشرة، لكنّ مجمل سياساتها وانكساراتها وتراجعاتها تقود إليهما، بقصد أو بدون قصد، ولنا أن نتخيّل بعدها حال الفلسطيني الباحث عما يجدد فيه روح المقاومة وبريق حضورها، أو يمتّن حبل صموده الذي تتوالى عليه عوامل الإضعاف.
في الانتفاضتين العظيمتين السابقتين، وخصوصاً الأولى، انتفاضة الحجارة، التي تهلّ ذكراها هذه الأيام، كانت الشهادة حدثاً يوميا، وكان نصيب الفتية من أشبال الحجارة وافراً منها، لكنّ حسابات الدم المبذول وقتها كانت مختلفة، وكذا تفاعل المحيط الغاضب مع آثاره، ذلك أنه كان وقوداً لإدامة اشتعال ثورة قائمة، مثلما كانت القناعة بضرورة بذل التضحيات في أبهى حالاتها، فكان الدم يولّد الغضب، والغضب يفرز دافعاً للثأر سرعان ما يجد ميدانه.
اليوم وقد فتر الغضب، أو عُمل على فلترته وتصريفه في اتجاهات بعيدة وتائهة، صارت كثير من الجرائم تمرّ دونما اكتراث، ويُكتفى بالتفاعل التقليدي معها، الذي لا يتجاوز سقف حالة الترويض القائمة، ولذلك يبدو التفاعل الشعوري معها عبئاً نفسياً ثقيلا، حتى وهو يمثل أضعف الإيمان.
ليس المقصود أن المقاومة والتضحية أضحتا تحت مجهر سؤال الجدوى اليوم، فالمقاومة جدوى مستمرة كما يقال، وروّادها لا ينتظرون من يرسم لهم المسار، أو يعرّفهم بدورهم، وسط حالة العجز العامة، والسكون والصدود عن دروب المواجهة. إنما يلزم دائماً فهم الظروف العامة وبواعث سِمات كل مرحلة، قبل هجاء جمودها أو توقّع المستحيل منها، إذ لن يُنتظر أن تأتي كائنات غير مرئية أو صنيعة بيئة أخرى لكي تصنع تغييراً مدهشا، فمثلما أن الإشكالية موجودة في البيئة وظروفها ومعطياتها، فإن الحلّ ينبغي أن يخرج منها بعد فهم كلّ ما طرأ عليها من تغيّرات.
الاكتراث بالخروج من هذه الحالة، والسعي لاستعادة الروح الجمعية المسكونة بطموح المواجهة، والتطلع للإقدام والعطاء، يلزمه تفكيك كلّ ما أسس لحالة العجز والتراجع، ونزوع عملي للتخلص من القيود المرهقة التي زيّفت ملامح الواقع، وبثّت في أوصاله صدأها.
ولعلّ ذكرى الانتفاضة الأولى مناسبة مهمة للوقوف مع الذات، وبحث إمكانات استعادة الروح المفقودة والمفتقدة، وسبل النهوض العملية، حتى لا تظلّ حوادث الشهادة مناسبات للتفجّع وحسب، فيما يتوارى خلفها الفعل أو الدعوة الحقيقية إلى صياغة المطلوب، أو استثمار المتاح والمغيّب، على أقل تقدير.