مع إطلالة فصل الشتاء، وقبل الإعلان الرسمي لنتائج الانتخابات الأميركية، تبخّرت سريعًا سحابة الصيف التي ظلّلت المشهد الفلسطيني، والتي ارتفعت في سماء فلسطين بعدما اتّخذت السلطة الوطنية موقفًا من خطة الضمّ، وعارضت تطبيع بعض الأنظمة العربية مع الكيان الصهيوني، واستدعت سفيريها من الإمارات والبحرين، كما شهدت الساحة السياسية الفلسطينية أجواءً من المصالحة ووحدة الموقف على قاعدة مواجهة "صفقة القرن"، والتحلّل من الاتفاقات مع الكيان الصهيوني ووقف التنسيق الأمني.
تهاوت سريعًا كل الآمال على ثبات هذا الموقف والبناء عليه، للانتقال من مرحلة إلى أخرى، يراكم فيها الشعب الفلسطيني نضالاته، ويصوغ خلالها مشروعه الوطني الهادف إلى دحر الاحتلال، والجامع لوحدة الأرض والشعب والقضية. مشت السلطة نصف الطريق في هذا الاتجاه، لكن عيونها كانت ترنو إلى الخلف، إلى اللحظة التي تنكص فيها على عقبيها، جلّ هدفها المحافظة على بقائها الذي هدّدته "صفقة القرن"، جاعلةً معركتها ضدّ الضمّ القانوني، متناسية الضمّ الزاحف الذي يبتلع الأرض، ويضع الشعب في معازل تضيق كلما زادت المستوطنات اتساعًا. استبقت النتائج الرسمية للانتخابات الأميركية، لتبشّرنا "بانتصار" مدوٍّ حملتْه قصاصة ورقٍ من ضابط يعمل منسقا لشؤون المناطق، يبشّر فيها بأن الحكومة الإسرائيلية ستعيد لها مقاصّة الضرائب الفلسطينية التي امتنعت عن استلامها سابقًا. أما الثمن، فهو العودة إلى الاتفاقات التي قيل إن السلطة قد تحلّلت منها، بما فيها التنسيق الأمني الذي افترض بعضهم أنه قد توقف، ومن دون أي تعهد من أي مستوًى سياسيٍ صهيونيٍ، بأيّ التزام تجاه السلطة والاتفاقات الموقّعة معها، عدا ذلك المتعلّق بإعادة جزء من أموال الفلسطينيين لهم؛ إذ ما لبث مجلس الوزراء الصهيوني أن قرّر اقتطاع 600 مليون شيكل، أو ما يعادل 20% من مجموع المبالغ المستحقة، باعتبار أنها صُرفت على أسر الشهداء، والأسرى والجرحى. كما قرّرت إقامة آلاف الوحدات الاستيطانية لاستكمال خطّتها بالضمّ الفعلي، وسط احتفال السلطة بانتصاراتها الزائفة.
قرّر جهابذة السياسة في السلطة الفلسطينية أن عليهم القيام بخطواتٍ استباقية، لعلّها تعزّز من علاقتهم بإدارة الرئيس الأميركي المُقبل، دونالد ترامب، فنقلوا رسائل، عبر وسطاء، إلى فريقه الانتخابي يتعهّدون بها بوقف أي انضمام فلسطيني إلى المنظمات الدولية التي تعهّد رئيس السلطة محمود عباس، مرارًا وتكرارًا، بانضمام فلسطين إليها. وفي ذلك دلالة واضحة على السقف السياسي الذي قنعت به قيادة السلطة؛ سقف الحكم الذاتي المحدود البعيد عن مظاهر السيادة! كما تعهّدت أيضًا بمراجعة مناهج التعليم الفلسطينية، وهي التي تعرّضت على الدوام لعبثٍ مقصودٍ فيها كلما صدرت اتهامات بأنها تحتوي تحريضا بين سطورها. أما ثالثة الأثافي، فهي التعهّد بإصلاح نظام دفع المخصّصات المالية لعائلات الأسرى والشهداء والجرحى، وهو تعهّد يستهدف إيقاف الحسومات التي تفرض على المقاصّة الضريبية، بذريعة أنها تُصرف على الأسرى والشهداء الذين تعتبرهم السلطات الإسرائيلية "إرهابيين"، وفتح الطريق أمام المساعدات الأميركية التي بالذريعة ذاتها تحول بين السلطة واستلامها قوانين سُنّت في الكونغرس، تفرض رقابةً على طرق إنفاق الأموال. ومن هنا، تسعى السلطة الفلسطينية إلى إنهاء ما تُعرف بمخصّصات الشهداء والأسرى، وإقامة نظام بديل للرعاية الاجتماعية، شبيه بصناديق المعونة الوطنية الخاصة بالفقراء، وضمن المعايير نفسها، فيحصل منه بعض الأسرى والشهداء على فتات صناديق الرعاية الاجتماعية، بوصفهم وعائلاتهم بحاجةٍ إلى هذه المعونات، وليس باعتبارهم مناضلين وأسرى، والضمير الحي للشعب الفلسطيني. ويبدو أن الجانب الإسرائيلي مطّلع على هذه الخطوات؛ إذ أعلن رئيس الحكومة الفلسطينية، محمد اشتية، أنه تم التوافق مع الجانب الإسرائيلي على طبيعة الحسومات، بحيث لا تؤثر على المردود المالي للسلطة بشكل كبير، وأن ثمّة اجتماعات تنسيقية متتالية مع الإسرائيليين خلال الفترات المقبلة لحلّ جميع الإشكالات.
ومقابل تلك التعهّدات، توقّعت السلطة الفلسطينية من الإدارة الأميركية المقبلة المساهمة في موازنة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، واستئناف تقديم المساعدات المالية للسلطة ولأجهزة الأمن الفلسطينية، وفتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، وعودة وكالة التنمية الأميركية إلى تنفيذ مشاريع في الضفة الغربية.
ماذا حقّقت السلطة من ذلك سوى تأمين موارد مالية تكفي لإدامتها، بعدما احتفلت بتراجع مشروع ترامب المتضمّن فعليًا إنهاء السلطة، واستبداله بالضمّ الفعلي الزاحف الذي قد يطيل في عمرها فترة محدودة. ومقابل ذلك، زاد ارتهانها للكيان الصهيوني وارتباطها به! ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل أعادت السفيرين اللذين كانت قد سحبتهما من أبوظبي والمنامة عند قيام الأخيرتين بتطبيع العلاقات مع إسرائيل إلى أماكن عملهما، في خطوةٍ اعتذاريةٍ لهما ولغيرهما ممن لا يزال متردّدًا في اتخاذ خطوات تطبيعية. بعد خطواتها أخيرا، ما عاد بإمكان السلطة الفلسطينية الاحتجاج على ذلك، وليس مستبعدا أن نشهد قريبًا، في عواصم هذه الدول، لقاءات لمسؤولين من السلطة مع مسؤولين صهاينة، تحت ذريعة التوسّط العربي لحلّ الخلافات. أما النضال ضدّ التطبيع بأشكاله كافة، فقد أصبح مهمة الجماهير الفلسطينية والعربية وحدها!
بعد هذه التطورات، ما مصير الانتخابات، والمصالحة الفلسطينية، والمقاومة الشعبية وقيادتها المفترضة، بل والاتفاق على المشروع الوطني الفلسطيني، بعد أن بات واضحًا أن مشروع السلطة الفلسطينية، المراوحة في المكان والمحافظة على ذاتها، والمصرّة على العودة إلى علاقاتها مع الاحتلال بأقوى مما كانت، وبعدما تبيّن لها عبث قراراتها أخيرا انتظار المفاوضات التي ستزداد القعقعة حولها، لكن لن نرى لها طحينًا؟!
تفترض المصالحة أساسًا اتفاقًا سياسيًا قبل أي اتفاق إجرائي. وعلى الرغم من أن حركة حماس والفصائل الفلسطينية قد تقدّمت خطواتٍ باتجاه الموافقة على حلّ الدولتين، إلّا أن ما يجري ضمن هذه السياسات يبعد حتى هذا الحل الذي بات مرجّحًا أنه قد دُفن تحت جرّافات المستوطنات. ولا يوجد مشروع حقيقي للسلطة سوى بقائها، وهو البقاء الذي سيتحوّل إلى حكم ذاتي محدود لمعازل فلسطينية. في ظلّ هذا الوضع، لا يمكن تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام.
يبدو أن ثمّة مفترق طرق يقف الجميع أمامه: أولهما استمرار محادثات المصالحة، كما جرى في السابق، وعلى مدى أعوام مرت، وفي ظل اتفاق أوسلو والتنسيق الأمني، ولهذه المباحثات دواعٍ تتعلق بمحاولة تملّص أطرافها من المسؤولية عن استمرار الانقسام، لكنها لن تؤدي إلى أي إنجازٍ جديد، إلا أنها قد تنجح في إدارة بعض جوانبه. والخيار الثاني الذي ينبغي التفكير به جديًا ليس لحل مشكلة الانقسام فحسب، وإنما لإعادة الروح إلى المسار الفلسطيني، فيتمثّل بالعمل على قيام جبهة وطنية متّحدة، تضم في صفوفها كل اتجاهات الشعب الفلسطيني وفعالياته في مختلف أماكن وجوده، الضفة الغربية وقطاع غزة، وفلسطين المحتلة عام 1948، والشتات الفلسطيني، لإعادة بناء منظمة التحرير، وتصعيد المقاومة بكل أشكالها المتاحة من أجل دحر الاحتلال، والنضال ضدّ نظام الأبارتهايد الصهيوني، لتحقيق الحرية والعدالة للشعب الفلسطيني كاملًا، بعيدًا عن اللهاث وراء سراب الحلول الزائفة.