لا شك أن ما تم خلال 14 عاماً من جهود لتحقيق المصالحة الوطنية قد تعرض لانتكاسات متعددة، كان آخرها قرار السلطة العودة للتنسيق الأمني -الذي لا يرى أحدٌ أنه توقف أصلاً- خصوصاً أن القرار قد أعلن عنه في الوقت الذي يجتمع فيه وفدا حركتي حماس وفتح في القاهرة. وبعد أربعة عشر عاماً من الانقسام الفلسطيني الداخلي الذي جاء نتيجة مباشرة لأكثر من 26 عاماً من أوسلو التي فرضت سلوكاً سلطوياً مبنياً على الأحادية السياسية، دون أي تراكم ديمقراطي أو حتى توافق وطني يمكن البناء عليه؛ فقد أصبحت الحالة الوطنية في وضع لا تحسد عليه، حيث بدا واضحاً أن الانقسام الحقيقي بين "السلطة الفلسطينية" وإدارتها من فريق التنسيق الأمني في حركة فتح من جهة، ومن جهة أخرى الفصائل التي ترفض التنسيق الأمني وفي مقدمتها حركة حماس.
ولا شك أن حالة الاستقطاب بين الفريقين مستمرة وواضحة بحيث لا يستطيع أحد أن يتجاهلها. ولم يعد خافياً أن الكل الوطني أصبح لديه قناعة صريحة بأن لا أحد من الفصائل الفلسطينية يستطيع منفرداً أن يتحمل مسؤولية إدارة غزة أو الضفة دون الآخرين، وأن مقاومة الاحتلال تحتاج إلى وحدة وطنية وشراكة سياسية، فلم تعد المقاومة بعد التطبيع العربي مقتصرة على ما عرفناه في سبعة عقود من النضال الفلسطيني مبنية على المواجهة المباشرة مع العدو! بل أصبحت مقاومة من يقاوم المقاومة لازمة من لوازم الواجب الوطني.
استمرار تجاهل "السلطة" كل القرارات الوطنية المتعلقة بوقف التنسيق الأمني وتنكرها لمخرجات اجتماع الأمناء العامين وقرارات الإجماع الوطني بتفعيل المقاومة الشعبية في الضفة الغربية، يضع الحالة الوطنية أمام خيارات ثلاثة للتعامل مع السلطة.
الخيار الأول: التعايش مع السلطة، وهذا يعني قبول الأمر الواقع والتسليم بما ينتج عنه. ومعلوم أن التزامات "السلطة" تجاه الاحتلال تقضي بمنع أي عمل مقاوم ضد العدو، بل وملاحقة المقاومين وتسليم معلومات ساخنة عن النشطاء، سواء كانت مقاومة مسلحة أو حتى شعبية.
الخيار الثاني: إدارة الانقسام، وهذا يعني العودة إلى المربع الأول من المناكفات الحكومية بين غزة والضفة، وقبول كل منطقة جغرافية بما لديها سياسياً وأمنياً واقتصادياً.
الخيار الثالث: العزل الوطني للسلطة، وهذا يعني تكوين حالة وطنية رافضة للسلطة ومتمردة على قراراتها في الضفة الغربية. وعليه تحمل الفصائل والنشطاء المسؤولية عن النتائج المترتبة على المقاومة الشعبية للاحتلال.
معلوم أن ترجيح أي من الخيارات الثلاثة يقتضي مقاربة سياسية اقتصادية اجتماعية مبنية على الجغرافية الوطنية، فعزل السلطة يتطلب قراراً سياسياً إقليمياً ودولياً، فهي قد تشكلت بناء على قبول دولي ترعاه الرباعية الدولية (الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) عام 2002 لحل المشكلات والأزمات بين "السلطة" و"إسرائيل". لكن العزل الوطني يقتضي تشكيل حالة وطنية مقاومة لسلوك السلطة الأمني ورموزه، بالتزامن مع ممارسة الحق الوطني في مقاومة الاحتلال وإجراءاته التعسفية والعنصرية ضد الأرض والإنسان والمقدسات، بحيث تتم مراكمة حالة الوعي الشعبي والفرز الوطني لصالح مشروع المقاومة الذي تراه السلطة مهدداً لها ربما أكثر من الاحتلال. ومعلوم أن الطبيعة العنصرية للاحتلال وإجراءاته الميدانية لا يمكن ضبطها أو تجميلها أمام الفلسطيني الذي سيمارس الفرز الوطني يومياً وهو يرى صمت السلطة بل وتماهيها مع العدو، في مقابل الثائر الذي يقاوم العدو ويستعيد كرامة المواطن.
قد يبدو الخيار الثاني مكروهاً وطنياً لكنه استمر لسنوات طويلة، وربما يراه البعض هو الحالة السائدة حتى الآن مع شكل من أشكال الخيار الأول. ربما تكون فكرة شراء الوقت واستراتيجية قبول الواقع حتى تتغير الظروف مقبولة لدى المراقب! لكنها ليست فاعلة لأصحاب المشروع الوطني، الذين يرون الاحتلال يتمدد في الوطن العربي بدعوى التطبيع على حساب دعم القضية الفلسطينية، وأولئك الذين يؤمنون بأن إدارة الشأن اليومي للسكان يجب أن تتم وفق رؤية وطنية، هي بالضرورة تتناقض مع الاحتلال فضلا عن خدمته أمنياً واقتصادياً؛ إذ كيف يمكن التعايش مع خصم مخصصات الأسرى وأهالي الشهداء الذين ضحوا من أجل فلسطين وحريتها، لا من أجل المحافظة على سلطة تخدم الاحتلال!
ولعل المزاوجة بين الخيار الثالث وشيء من الخيار الأول تمثل مقاربة وطنية تراعي حساسية اللحظة واستراتيجية الحالة. فلا يمكن أن تستمر السلطة بوضعها الحالي إلّا إذا كانت تقوم بخدماتها الأمنية والاقتصادية لمصلحة الاحتلال، كما أن المشروع الوطني لا يمكنه أن يرى النور بوجود سلطة تمارس الضغط الاقتصادي والاجتماعي والأمني على المواطن لكسر إرادة المقاومة، وقتل روح النضال الشعبي ضد ظلم العدو واستبداد السلطة.