مر أسبوع كامل على إعلان وزارة الخارجية الأمريكية بشأن وسم المنتجات الإسرائيلية ولم يخرج تعليق فلسطيني رسمي واحد. فهل هذا يندرج تحت عودة التنسيق الأمني؟ أم هل يمكن أن تكون القيادة الفلسطينية قد قرأت الإعلان كما قرأت رسالة المنسق وتمسكت بعبارة التزام الاتفاقيات الموقعة بأوسلو؟
لم تكن زيارة وزير الخارجية الأمريكي بومبيو الأسبوع الماضي بالمفاجئة. فبينما ينتظر العالم وأمريكا انتهاء أزمة الانتخابات الأمريكية ونزول ترامب عن كرسي الرئاسة ليسلمه إلى بايدن، يعرف المترقبون جيدًا أن إسرائيل ستلعب بالوقت الضائع، مستغلة كل الإمكانات لتفرض ما تستطيع فرضه من واقع على الأرض باستلاب المزيد مما يمكن سلبه من أراضي فلسطينية.
أعتقد جازمة، أن (إسرائيل) تعي جيدًا كذلك، أنه سيأتي يوم ستضطر فيه حكومتها للتفاوض الحقيقي مع الفلسطينيين، وذلك بعد أن تنتهي بحكامها كل السبل للرفض والتهرب، وفي نفس الوقت، ستستخدم الموافقة على التفاوض من أجل كسب آخر. ولكن حتى يأتي ذلك اليوم، ستستمر بانتهاز كل، وأي فرصة لسلب المزيد ورسم ملامح الحل على حسب فرض الأمر الواقع. فلم تعد حدود الـ٦٧ موجودة للحديث عنها. ولم تعد كذلك حدود كامب ديفيد، أو واي ريفير أو طابا أو الطائف أو أي مبادرة عربية أو غيرها. حتى خطة ترامب لم يصدر من رئيس الحكومة الإسرائيلية بشأنها إلا ترحيبه بها- لا موافقته على كل تفاصيلها.
وترسيم الحدود من خلال ما نعيشه اليوم من مستعمرات وشوارع وحواجز ومعابر وثكنات عسكرية وجدار، جعل من الضفة الغربية والقدس معازل لا يمكن ضمها إلى منطقة السلطة الفلسطينية، ومُحْكَمٌ عزلها عن المستعمرات والمدن الإسرائيلية. وخطة الضم التي أعلنتها الحكومة الإسرائيلية في تموز الماضي. وأجلت تنفيذها، ليست إلا توطيدا أخير لخطة عزل محكمة تترك المدن والقرى والحواري والشوارع الفلسطينية معزولة عن بعضها البعض.
وعليه، جاءت زيارة بومبيو لتؤكد ما تم الإعلان عنه من خطة ترامب، فزار الجولان وأطلق نبيذًا باسمه من احدى المستعمرات بالضفة الغربية، وزار أنفاق سلوان.
كل هذا كان عرضًا لا يختلف عن عروض "المنسق" الإسرائيلي على صفحات الفيسبوك. لا جديد فيه إلا حراك استفزازي يتم محاولة جس نبض الشارع وردود الفعل من خلاله.
ولكن الحدث المهم، أو بالأحرى الخطير هو ما ترتب عن زيارته من اعلان وزارة الخارجية الأمريكية عبر تويتر التالي: "إطلاق مبادئ توجيهية جديدة لوسم بلد المنشأ للبضائع الإسرائيلية والفلسطينية بحيث سيتم وسم المنتجات على أنها صنعت في (إسرائيل)، الضفة الغربية، أو غزة استنادا الي ممارسة السلطات المعنية".
وجاء بالتصريح الكامل" للمبادئ" انها ستضمن "أن تكون وسوم الدولة الأصلية للسلع الإسرائيلية والفلسطينية متوافقة مع نهج السياسة الخارجية القائم على الواقعية. وعليه سيطلب من جميع المنتجين في المناطق التي تمارس فيها إسرائيل السطات ذات الصلة -وعلى الأخص المنطقة ج بموجب اتفاقيات أوسلو- أن يطلق عليها -المنتجات- "إسرائيل" أو "منتج من إسرائيل"، أو "صنع في إسرائيل" عند التصدير إلى الولايات المتحدة، أي أن البضائع التي يتم إنتاجها بالضفة و(إسرائيل) سيتم التعامل معها بنفس النهج. ومن جهة أخرى، ينص البيان على "أن البضائع التي تصنع بمناطق السلطة الفلسطينية ستوسم على أنها بضائع "ضفة غربية"، والبضائع التي تصنع بغزة على أنها من غزة لأن المنطقتين تخضعان لإدارة وسياسة مختلفتين. واختتم البيان بالتأكيد على الالتزام بسلام دائم وممكن التطبيق كما جاء في رؤية ترامب للسلام. وأكد البيان على الاستمرار برفض الدول والمؤسسات الدولية التي لا تنزع الشرعية وتفرض العقوبات بإجراءات خبيثة على (إسرائيل) والمنتجين الإسرائيليين في الضفة الغربية، التي ترفض الاعتراف بالواقع على الأرض".
الحقيقة أنني لم أتابع تفاصيل هذه الاحداث بإسهاب منتظرة الرد الفلسطيني الرسمي، نظرًا لتراكم الأحداث وانشغالنا ربما بتصريحات المسؤولين الفلسطينيين وانتصارهم بمعركة العودة إلى التنسيق الأمني والدفاع عن قلاعها امام ردة فعل الشعب. ففي نفس اليوم (١٩/١١) أصر الوزير حسين الشيخ من جديد على انتصارات التنسيق فكتب: "عقدت اليوم اجتماعا مع الجانب الإسرائيلي وتم التأكيد فيه على أن الاتفاقيات الموقعة بين الطرفين والتي أساسها الشرعية الدولية هي ما يحكم هذه العلاقة. وتم الاتفاق على تحويل كل المستحقات المالية للسلطة ورفضنا لسياسة الاستيطان وهدم البيوت ومصادرة الأراضي. وتم الاتفاق على عقد اجتماع اخر".
الحقيقة أننا لا نستطيع كمواطنين متابعة تفاصيل كل المصائب التي تنهال علينا. فهل نركز على ما يجري بالقرب منا من هدم بيوت أو إخطارات هدم أو مصادرات، واعتقالات واستشهاد آخر لشاب؟ أم نركز على احباطات الوضع الداخلي من تفشي الكورونا وزيادة هائلة بالمصابين وعبثية الإجراءات؟ أم على قمع المواطنين وملاحقتهم على خلفية الرأي؟ أم على تردي الأوضاع الاقتصادية وسوء البنى التحتية؟
ولكن، لنقل إن القيادة السياسية المحلية منشغلة بالانتصارات التنسيقية وإعادة مستحقات المقاصة ولجم الشعب ما استطاعت، أين وزارة الخارجية الفلسطينية والدبلوماسية؟
الشخص الوحيد الذي تناول الحديث بالموضوع كان الدكتور سلام فياض، ولا أظن أنه يمكن إدراجه تحت طائلة "القيادة الفلسطينية".
والحقيقة أن المقال الذي نشره الدكتور سلام فياض (باللغة الإنجليزية) بالرابع والعشرين من تشرين الثاني الجاري، والذي حمل عنوان "وسم المنتجات الإسرائيلية، أم إضفاء الطابع الرسمي على سرقة الأراضي الفلسطينية؟" كان بغاية الأهمية. لا لجرأته التي تغنى بها عنوان المقال فقط، ولكن لضرورة الإضاءة والتحذير عن خطورة ما تقوم به الجهات الإسرائيلية والأمريكية بهذه الأثناء من الوقت الضائع، حيث اهتمام الناس مشتت بين مجريات الانتخابات الأمريكية ونتائجها من جهة، وهرولة الدول العربية باتفاقات التطبيع من إعلانات وزيارات، كان آخرها زيارة نتانياهو للسعودية، والتلويح بضرب لإيران. وعدم التركيز -ولا حتى ذكر- قيادات السلطة الفلسطينية باتجاهاتها المختلفة سواء تلك الدبلوماسية أو السياسية أو التفاوضية على خطورة ما جرى، والاستمرار بالحديث والاعلان عن انتهاء صفقة ترامب، وكلام عن التزامات الرئيس القادم -بايدن بإغلاق السفارة بالقدس وعودة المفاوضات وترك اليد عن المساعدات.
تناول المقال ابعاد أكثر من تبعيات الإعلان الأمريكي، وذلك بكون ما قام به بومبيو بهذا الإعلان يصب تماما بطلب سابق لأربعة مشرعين قبل ثلاثة أيام من الرئيس ترامب يحمل تداعيات أخطر بكثير.
يقول الدكتور فياض: "المعضلة تبدو للوهلة الأولى وأنها في نية التخلص من سياسة عالقة منذ زمن تطلب وسم منتجات المستوطنات بالضفة الغربية على أنها "صنعت في إسرائيل"، حيث ابدا المشرعون الجمهوريون الأربعة تخوفهم من اختيار الإدارة الأمريكية الجديدة للقوانين الحالية بشأن بضائع المستوطنات (نص رسالة المشرعين استخدم به كلمة يهودا والسامرة بالإشارة إلى الضفة الغربية) وبالتالي تجعل من المنتجين أهداف لحملة المقاطعة.
وهنا تبدو قراءة الدكتور فياض المعمقة للتصريح بتحذيرات مريبة تتعدى ما يبدو للوهلة الأولى من قراءة الاعلان الذي يبدو وكأنه يتكلم عن أمر اجرائي بشأن وسم البضائع سيتم حتما تفعيله ان لم يكن اليوم فغدا، ولكن الامر يتعلق بكل بساطة "بوسم مناطق". حيث يتضح هذا من خلال الأساس المنطقي الذي يقدمه التصريح كقاعدة لتحول سياسي، تحديدا وفق استخدام عبارة "نهج سياستنا الخارجية القائمة على الواقع". وعليه يؤكد الدكتور فياض ان باطن هذا الامر ليمكن ان يكون وسم للمناطق، ووسم البضائع ليس إلا تبريرا لما هو أخطر.
والاعلان الأمريكي على حسب تحليل الدكتور فياض يأتي مفخخا بمعظم عباراته. فيلفت النظر إلى ان الإعلان لم يشر إلى المستوطنات الإسرائيلية، ولكن تم استخدام عبارات تشير إلى ان البضائع المتضررة هي تلك التي ينتجها "جميع المنتجين داخل المناطق التي تمارس فيها (إسرائيل) السلطات ذات الصلة -وعلى الأخص المنطقة ج بموجب اتفاقيات أوسلو".
ويلفت كذلك إلى نقطة أخرى "تساعد في إلقاء الضوء على الدافع الحقيقي لإصدار هذا التوجيه السياسي الجديد في هذه المرحلة، وهو اشتراط ان يتم تصنيف السلع المنتجة في غزة، والتي كانت تصنف بالسابق "الضفة الغربية/غزة" بـ"غزة" فقط، وان التسمية السابقة لم تعد مقبولة.
باختصار، يأخذنا المقال إلى استنتاج أن الهدف الرئيس من تغيير السياسة بشأن وسم البضائع هو "العمل على الضم الذي وعدت به (رؤية الرئيس ترامب للسلام والازدهار)، ويمكن تأمين هذا الضم تحت ستار وسم المنتج والذي سيطبق على أكثر من ضعف الـ٣٠٪ من مساحة الضفة الغربية المنصوص عليها في الرؤية المذكورة".
يطرح الدكتور فياض سؤالًا أساسيًّا وهو " لماذا لم يقتصر الإعلان على نطاق تغيير السياسة على المستوطنات فقط؟ وبدلا من ذلك يغطي التحول السياسي على الأقل للمنطقة ج بالكامل؟) وهنا يمكننا فهم زيارة بومبيو إلى الجولان والقدس كأنها تأكيد لا رجعة فيه لما أعلنه ترامب سابقا).
وعليه يمكن فهم أن ما جرى يصب في خطة نتانياهو "بالبحث بشكل معقول عن طرق لدفع عملية الضم على خلفية عاملي خطر. فمن ناحية، فإن عدم التصرف على الإطلاق قد يؤدي إلى فقدان فرصة تنفيذ أي ضم بمجرد تولي الإدارة الأمريكية الجديدة مقاليد الحكم. ومن ناحية أخرى، إن التصرف بقوة شديدة خلال الفترة الانتقالية بالولايات المتحدة يحمل في طياته خطرا واضحا يتمثل بدخول الحكومة الإسرائيلية علاقتها مع إدارة بايدن بالقدم الخاطئة".
أما على الصعيد الإسرائيلي الداخلي، "فإن تمييز الإعلان للمنطقة المقرر ان تكون منتجاتها من أصل إسرائيلي على أنها "المنطقة ج بشكل خاص" أي ليست منطقة ج حصريًا، يعني، ان التحول في السياسة سيقطع شوطًا طويلًا نحو إرضاء الأحزاب الإسرائيلية -الأكثر تطرفا- التي تعارض حتى المفهوم الوهمي للحدود المبينة في رؤية ترامب، حيث يعتبر هؤلاء ان الأرض بالكامل هي (إسرائيل). وأخيرًا، يتم تقديم التحول في السياسة بالكامل على أنه إجراء تقني عادي، من غير المحتمل أن يتم عكسه من قبل إدارة بايدن.
لا أعرف ما الذي تنتظره السلطة بقيادتها ودبلوماسييها لتعلن موقفها من هذا الإعلان. فإذا ما استمرت السلطة على هذا النهج من العيش على وهم الانتصارات والتأمل بالرئيس الأمريكي كمُخلِّص، أخشى أن يأتي تاريخ تقلد بايدن المرتقب وما من خيار إلا مفاوضات على تعيين زعماء لروابط القرى -المعازل الفلسطينية.