لا يتمكَّن غُلاة المستوطنين من دخول المسجد الأقصى إلا تحت حماية قوّات الاحتلال، ولا يختار طلائعُ المطبِّعين، بعد "اتفاق أبراهام"، للصلاة فيه، إلا حماية جنود الاحتلال؛ فهل مِن فرق؟ قُوبلت زيارة الوفد الإماراتي الاقتصادي المسجد الأقصى في القدس باستنكار فلسطيني، شعبيٍّ، ورسميٍّ؛ بعباراتٍ تزدري فعْلتهم ممّن حضر الواقعة، من المصلّين الفلسطينيين، وبتنديدٍ على لسان رئيس الحكومة الفلسطينية محمد اشتية، الذي قال: "المسجد الأقصى المبارك، يدخله الناس من بوَّابة أصحابه، وليس من بوَّابة الاحتلال.
من المحزن أن تدخل بعض الوفود العربية من البوَّابة الاسرائيلية، بينما يُمنع المصلُّون من الدخول للمسجد لأداء صلواتهم فيه".
ورأى مجلس الإفتاء الأعلى في فلسطين أن الزيارات التطبيعية للمسجد الأقصى لا تختلف عن الاقتحامات المتكرِّرة لجنود الاحتلال ومستوطنيه.
أما منظَّمة الهيكل، اليهودية المتشدِّدة، فقد رأت أنَّ زيارة هذا الوفد تاريخية؛ كونه دخل الأقصى من باب المغاربة المخصَّص لليهود، وفِي حراسة أمنيَّة إسرائيلية مشدَّدة، وليس برفقة موظَّفي الأوقاف الإسلامية، واعتبرت هذه التغييرات بداية "إتمام النبوَّة".
وبالتزامن مع زيارة المطبِّعين من الإمارات المسجد الأقصى، اقتحم عشرات المستوطنين (بزعامة الحاخام يهودا غليك الذي يرأس الحركة الداعية إلى اقتحام المسجد بشكل ممنهج، للتأكيد على ما يقولون إنه أحقيَّة اليهود بالمكان)، باحاته من جهة باب المغاربة، بحماية شرطة الاحتلال، وأدُّوا طقوسًا تلمودية في باحات الأقصى، قبل أن يغادروه من جهة باب السلسلة.
ويوم الخميس الفائت، اقتحمت منظَّمات ما يسمَّى "الهيكل" المزعوم المسجد الأقصى، وطالبت، في وقفة قُبالة قبَّة الصخرة، وعلى مرأى من قوَّات الاحتلال التي رافقتهم، بطرد الأوقاف الإسلامية من المسجد الأقصى.
واضح، إذن، أنَّ هذه "الصلاة" فعلٌ سياسي، ومن النوع الرديء، أكثر مما هي فعل تعبُّدي، كما يُفترَض في الصلاة التي هي سبيل للتقرُّب إلى الله.
وهذا وَفْق ما تعنيه من رسالة مقصودة، يُراد لها أن تُفهَم في هذا السياق، من دون أن نحتاج إلى التطرُّق إلى نيَّاتٍ محتمَلة لدى الأفراد الذين أدُّوها؛ إذ لا يمكن أن تُعَدَّ مجرَّد صلاة، وهي تأتي ثمرة اتفاق السلام بين الإمارات ودولة الاحتلال.
وهي تجري بالفعل تحت حماية جنود الاحتلال المباشرة، بهذه الطريقة الإقحاميَّة؛ ليُصنَع لها سياقُها الخاص الذي يعاند السياقَ الطبيعي الذي كثّفت دولةُ الاحتلال، على مدار الأعوام القليلة الماضية، محاولاتِ كسره وانتهاكه من خلال الانتهاكات المتكرِّرة للمسجد الأقصى، حتى صار تدنيسهم الحرم القدسي أمرًا شبهَ يوميّ؛ سعيًا إلى تكريس السيادة الاحتلالية على المسجد الأقصى، دينيًّا، وسياسيًّا، كما كان منها محاولة أخفقت؛ حين حاولت فرض بوابات إلكترونية، إذ أراد بها الاحتلال تقنين تحكُّمه بالأقصى، والتفرُّد به، لتهويده وحصاره؛ لفرض التقسيم المكاني، وذلك بعدما ثبت مخطَّط التقسيم الزماني بساحاته.
كان ذلك في شهر يوليو/ تموز 2017، حينما ثبّتت دولة الاحتلال بوَّابات إلكترونية على مداخل المسجد الأقصى، وأغلقت المسجد، ومداخل البلدة القديمة، ومنعت إقامة صلاة الجمعة، في سابقةٍ، منذ احتلال القدس عام 1967.
ولكنها وأمام الرفض الفلسطيني الشعبي والرسمي الذي رافقه تضامنٌ عربيٌّ وإسلاميّ، اضطرّت للتراجُع عن البوَّابات الإلكترونية.
ولذلك، يتجاوز حُكَّام الإمارات، بهذا الفعل، إيقاع الضرر على شعبهم وبلادهم (الذي كان بتوقيع اتفاق السلام مع دولة الاحتلال)، إلى أنْ يكونوا ورقة بيد دولة الاحتلال، تفيد منهم في قضيَّة بالغة الحساسية والمركزية، ليس للفلسطينيين فقط، بل للعرب والمسلمين على اتِّساع العالم العربي والإسلامي.
وكان المدّون السعودي محمد سعود قد لقي التوبيخ والازدراء في باحات "الأقصى"، لأنه جاء عن طريق دولة الاحتلال، في فعلٍ تطبيعي مقصود، ولم تكن ظروف زيارته كما الوفد الإماراتي، من حيث الترتيبات والحماية والاهتمام، فقد حاول هذا الوفد تفادي ردود فعل لافتة؛ لعله ينجو من الوصمة، والأهم لكي يضفي شرعيَّة على سيادة الاحتلال على المسجد الأقصى.
ولا تنفصل هذه المؤازرة التطبيعية لدولة الاحتلال في شأن المسجد الأقصى عن تلك المؤازرة الصامتة لتصاعد السياسات والممارسات الاحتلالية التي تهدف إلى تنفيذ صفقة القرن، عمليًّا، من خلال التوسُّع الاستيطاني ومصادرة الأراضي، فقد وافقت حكومة الاحتلال على بناء آلافٍ من الوحدات الاستيطانية الجديدة في الضفة الغربية المحتلة.
وهو الأمر الذي لقي إدانة من قوى أوروبية، مشيرةً إلى أن الخطوة تؤدّي "نتائج عكسية"، وتقوِّض جهود السلام في المنطقة.
ولم تلقَ هذه الخطوة الاحتلالية مثلَ تلك الإدانة من الدول المطبّعة، ومن الإمارات التي تروّج أحيانا فكرة أنَّ من شأن سلامها مع إسرائيل أن يكبح التمدُّد الاستيطاني، والضم.
كما لم نسمع أيّ تعليقٍ إماراتي أو بحريني على صدور أوامر احتلالية عسكرية بمصادرة 11 ألف دونم من أراضي منطقة الأغوار الفلسطينية بذريعة تحويلها محميَّاتٍ طبيعية، وهو الأمر الذي يجسّد الضمَّ التدريجي.
وفي المحصِّلة، هذه الصلاة التطبيعيّة أكثر ضررًا من انتهاكات المستوطنين، ومع أن كليهما، يحدثان تحت حماية الاحتلال وشرطته، إلا أن زيارة الوفد الإماراتي تحقِّق ما تعجز عن تحقيقه انتهاكاتُ المستوطنين؛ لأنها تأتي من عربٍ مسلمين؛ لتُوهِم بمنح دولة الاحتلال اعترافًا بسيادتها، لا على فلسطين المحتلَّة، ولا على القدس، فقط، بل على المسجد الأقصى؛ كما يتضح من تصريح فليبر حسان، نائبة رئيس بلدية الاحتلال في القدس، إنَّ "السلطات الصهيونية ستستغلُّ قدوم أشخاص من الدول المطبِّعة مع الاحتلال إلى المسجد الأقصى، في تسويغ فرْض سيطرتها عليه؛ بدعوى توفير الأمن لهؤلاء، ومنع الفلسطينيين من التعرُّض لهم".
وليفتح هذا الفعلُ التطبيعيُّ اللابس لُبُوس العبادة البابَ أمام آخرين مأمولين، من البلاد العربية والإسلامية.
وهذا ما ينسجم مع الرؤية اليمينيَّة الصهيونية المتطرِّفة التي تقضي بحسم القضايا الأكثر استعصاء، كالقدس واللاجئين والحدود، من طرف واحد؛ بطيِّها، من دون مفاوضات، وإنما بتكريس الواقع الاحتلالي، بشكل نهائي.