الوصف الذي استخدمه رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تعقيبًا على إعلان تطبيع العلاقات مع الإمارات والبحرين والسودان يشي بالأبعاد الإستراتيجية التي تهم (إسرائيل)، فبعد إعلان التطبيع مع الإمارات تحدث عن اجتماع "العقل الإسرائيلي والمال الإماراتي" في إشارة إلى أنهم ليسوا أكثر من "صراف آلي"، ووصف الاتفاقيات الثلاث بأنها "جيدة للأمن والقلب والجيب" في إشارة واضحة إلى التوظيف الاقتصادي للاتفاقيات، فبعد أن كان نتنياهو يبحث لدولته الصهيونية عن "مكان تحت الشمس" أصبح يقول: "نحن نغيّر خريطة الشرق الأوسط".
وإذا كانت دول التطبيع السابقة واللاحقة حاولت إضفاء حالة الضبابية على مواقفها تجاه التطبيع، وإظهار أن التطبيع مع العدو الإسرائيلي يأتي بقرار وطني، فإن النتيجة الصريحة كانت أن قرار توقيع التطبيع يأتي بضغوط أمريكية سياسية واقتصادية مباشرة، تتجاوز الزمن السياسي وتقطع المفاوز التاريخية والقومية بين الشعوب العربية وعدوهم!، وقد شهدنا جميعًا السلوك الإسرائيلي المستمر في فضح كل اللقاءات التي عقدت مع شخصيات ومؤسسات عربية وأخرى إسلامية، ولم تستجب (إسرائيل) لطلبات هؤلاء بستر النشاط التطبيعي إلى حين استواء "الطبخة" وتسوية الأوضاع الداخلية.
الحاجة الأمريكية لحشد أكبر عدد من الدول لتنضم إلى خريطة التطبيع لأهداف انتخابية جمهورية جعلت إدارة الرئيس ترامب تسخر كل طاقاتها لإرغام دول التطبيع لتوقيع أي شكل من أشكال الاتفاقيات مع (إسرائيل)، وإن لم تكن التفاصيل نهائية، بعيدًا عن البروتوكولات الدولية في هذه الحالات.
ولعل الجيوش الإلكترونية التطبيعية لا تجد ما تسوغ به فوائد التطبيع أكثر من ربطه بعناوين فضفاضة وأهداف لا تستند إلى رأي عام حقيقي، فبعضهم اجتر الخطاب الديني المشوه عن علاقة المسلمين باليهود في سياق سخيف بعيدًا عن أصل الصراع المبني على وجود الاحتلال الصهيوني لا الوجود اليهودي، وبعضٌ آخر ركز على زج مقاطع فيديو مبتذلة لشخصيات مغمورة وأسماء عربية مجهولة للصلاة في الأقصى، مع ارتكاب أخطاء تعبدية صريحة من قبيل وضع أحدهم يده اليسرى فوق اليمنى في الصلاة، أو مقاطع سخيفة تتغنى بكل ما هو إسرائيلي في قفز نفسي وحضاري على القيم القومية والوطنية لبلدانهم، وآخرون عكسوا سذاجتهم بتوقع ليالي سمر على شواطئ (تل أبيب)، متناسين أن المقاومة الفلسطينية قد بددت من قبل وهم الأمن الذي خدعت به المنظمة الصهيونية يهود العالم.
إن حالة الضغط السياسي والاقتصادي لدول التطبيع ستستمر لكبح جماح قوى المعارضة الداخلية فيها، وهذا من المفترض أنه يعزز حالة الانقسام الداخلي بشأن جدوى التطبيع وفوائده للشعوب، التي ترى وتشاهد أن كل الذين طبعوا منذ أربعة عقود لم يحصلوا على استقرار سياسي ولا تنمية اقتصادية ولا رفاهية اجتماعية، بل على العكس من ذلك تزداد أزماتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا ما ترغب به (إسرائيل) لاستمرار تفوقها النوعي في المنطقة، ولتحقيق الأهداف الغربية من سبب وجود نظام غريب في المنطقة قادر على استمرار توليد الأزمات والمشكلات بين الدول والشعوب.
التطبيع لا يمثل خطرًا على القضية الفلسطينية فحسب، بل هو خطر حقيقي على شعوب المنطقة ومستقبل دولها، (إسرائيل) كيان استيطاني قائم على التمييز العنصري في سلوكه السياسي والاقتصادي والأمني، إن من يحاول تجاهل ذلك فسيجد نفسه في لحظة تاريخية لا ينفع فيها الندم الوطني أو الهروب السياسي، ومن لا يتعظ بالأنظمة والشخصيات التي خدمت لمصلحة (إسرائيل) عقودًا في السر والعلن فإنه جاهل بالوقاحة الإسرائيلية ينتحرُ.