تُعدّ صفقة "وفاء الأحرار" الأكثر قيمةً في تاريخ صفقات التبادل بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، يعود ذلك إلى اعتبارين أساسيين.
الاعتبار الأول: النطاق الجغرافي لعملية الأسر، فقد أسرت المقاومة في يونيو 2006م الجندي جلعاد شاليط من داخل موقع عسكريّ للاحتلال جنوب قطاع غزّة، وبالتالي كانت أول عملية أسر تجري داخل فلسطين المحتلة وتكلل بصفقة تبادل ناجحة؛ الأمر الذي يشير إلى تطور قدرات المقاومة العسكريّة في هذا المضمار.
أما الاعتبار الثاني: التكلفة الباهظة للصفقة إسرائيليًا، ويظهر ذلك من خلال مقارنتها مع صفقات التبادل المبرمة مع الاحتلال منذ عام 1968م، التي كانت أبرزها في: (عام 1979م: 76 فلسطينيًا مقابل جندي إسرائيلي، وعام 1982م: 4765 فلسطينيًا ولبنانيًا مقابل 7 جنود إسرائيليين، وعام 1985م: 1150 فلسطينيًا مقابل 3 جنود إسرائيليين).
وكعادته، لجأ الاحتلال إلى استخدام القوّة لاستعادة الأسير شاليط، بظنه أن الضغط على المجتمع الفلسطيني سيُضعف موقف المقاومة، وبالتالي سيجبرها على تسليم الأسير، دون شرطٍ.
وفي هذا الإطار، وعقب عملية الأسر، تعرضت غزّة إلى عدوانٍ على المدنيين والبنية التحتية، بالتوازي مع اختطاف نواب حماس ووزرائها وكوادرها في الضّفّة المحتلة. بالرغم من فشل الاحتلال عسكريًا، إلا أنّه باغت عام 2008م غزّة بعدوانٍ عنيفٍ، كان أبرز أهدافه استعادة الأسير شاليط بالقوّة. لكن، بعد العدوان تقهقر الاحتلال عن غزّة دون الأسير شاليط.
في جانبٍ آخر أكثر تعقيدًا، سخّر جهاز "الشاباك" جميع إمكاناته البشريّة والتكنولوجيّة في عمليّات البحث عن شاليط؛ فانتشر عملاء "الشاباك" في غزّة بحثًا عن إشارات ميدانيّة ذات جدوى.
بالتوازي مع ذلك، تنصّتت شعبة الاستخبارات العسكريّة "أمان" على جميع الاتصالات ومحادثات الإنترنت في غزّة؛ بغية الوصول إلى معلومات حول شاليط. في المحصلة، باءت المحاولات العسكريّة والاستخباريّة بالفشل الذريع، ولم يحصل الاحتلال على شطر معلومة عن الأسير شاليط في غزّة.
في بداية الأمر، رفض الاحتلال الشروع في مفاوضات تبادل الأسرى، طالبًا من المقاومة تسليم شاليط دون مقابل. صلابة موقف المقاومة، وفشل الاحتلال في العثور على أسيره، دفع الاحتلال إلى التفاوض حول صفقة التبادل، لكن بسقف متدني جدًا، بحيث استعد لإطلاق سراح أسير فلسطيني مقابل شاليط، ثم رفع السقف لأسيرين اثنين، ثم لثلاثة أسرى، الأمر الذي جعل المقاومة تدرك عدم جدية هذه المفاوضات.
بالرغم من ذلك، تجاوبت المقاومة مع وساطات شخصيّة، بموجب ذلك استلمت عائلة شاليط عام 2006م رسالة خطية من ابنهم، الأمر الذي أفضى إلى إثارة الجمهور الإسرائيليّ وتشكّل حاضنة إسرائيليّة مناصرة لقضية شاليط، وبالتالي شكل ضغطًا على حكومة الاحتلال برئاسة إيهود أولمرت، ودفعها للعودة إلى طاولة المفاوضات عام 2009م؛ مما أسفر عن نشر رسالة مصورة للأسير شاليط مقابل الإفراج عن (20) أسيرة فلسطينية.
إثر تغير البيئة السّياسيّة في مصر عام 2011م، اضطر الاحتلال إلى الإسراع في تنفيذ صفقة التبادل، خاصةً بعد ظهور تقديرات استخباريّة حول احتمال فوز الإخوان في انتخابات ما بعد ثورة مصر 2011م، وهو ما ينذر بإمكانيّة وجود ظهير سياسي مساند لموقف المقاومة في غزّة.
لذلك، وافق رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو على صفقة التبادل، رغم اعتراضه على اتفاقٍ مماثل في عهد أولمرت عام 2010م.
في هذا الإطار، اجتازت المقاومة معظم الخطوط الحمر الإسرائيلية، التي كان من أبرزها: عدم إطلاق سراح فلسطيني الداخل المحتل والقدس المحتلة، وقد عزت أوساط استخباريّة إسرائيلية هذا التنازل إلى عدم وجود خيارات وبدائل أخرى، الأمر الذي يؤكد على أنّ ثبات موقف المقاومة وصمود المجتمع الفلسطيني كان له الأثر الأكبر في إفلاس الاحتلال وعجزه عن تحقيق مراده.
شكلت صفقة "وفاء الأحرار" حدثًا مفصليًا ثريًا بالمدلولات السياسيّة؛ فبعد خمس سنوات وثلاثة أشهر وتسعة أيام من المجهودات العسكريّة والاستخباريّة الحثيثة، فشل الاحتلال في استعادة الأسير شاليط بالقوّة، وأذعن لمطالب المقاومة بالإفراج عن (1027) أسيرًا فلسطينيًا مقابل الأسير شاليط؛ الأمر الذي انعكس سلبًا على الروح المعنويّة الإسرائيليّة.
لقد منحت صفقة "وفاء الأحرار" مشروع المقاومة زخمًا شعبيًا منقطع النظير، في إشارة إلى كون المقاومة المسلحة الأقدر على إدارة الصراع مع الاحتلال وانتزاع الحقوق منه.
وفي ذات السياق، ساهم الصمود الشعبيّ الفلسطينيّ مساهمةً كبيرةً في إبرام صفقة "وفاء الأحرار"، حيث رفض الفلسطينيون الانصياع لتهديدات الاحتلال وإغراءاته في سبيل الوفاء للأسرى في سجون الاحتلال.