يعتمد القادة العسكريّون على سلاح الاستخبارات في بناء القوّة والتخطيط العسكريّ وإدارة المعركة؛ إذ تُعد المعلومات النّوعية والشّاملة مكونًا أساسيًا مهمًا في تحليل منطقة العمليّات العسكريّة، والتعرف على المهددات والفرص الماثلة فيها، بما يساعد في تقدير الموقف الناضج، وبالتّالي تحقيق الأهداف العسكريّة بحكمةٍ واقتدار. وقد فقهت المقاومة الفلسطينيّة مبكرًا إلى أهمّية الاستخبارات في المواجهة مع الاحتلال "الإسرائيليّ" على جميع المستويات، خاصةً في ظل تفوق "الإسرائيليّ" العسكريّ الهائل.
برز الدور الاستخباريّ خلال معركة "سيف القدس" بشكلٍ واضح في إدارة العمليات العسكريّة وتوجيهها، وتضليل أجهزة استخبارات الاحتلال، وحماية مقدرات المقاومة البشريّة والماديّة والمعنويّة، الأمر الذي أسهم -بلا أدنى شك- في إلحاق خسائر فادحة في أوساط الكيان "الإسرائيليّ" سياسيًا واجتماعيًا وعسكريًا. وربما يكون هذا الدور الاستخباريّ غير المسبوق أحد أهم دوافع تركيز الاحتلال في عمليات التدمير الماديّ على مواقع استخبارات المقاومة ومراكز انتشارها، وفي بعض الأحيان على ضبّاط الاستخبارات ومنازلهم المدنيّة.
وفي إطار الحديث عن البُعد الاستخباريّ في معركة "سيف القدس"، بالإمكان الإشارة إلى بعض أوجهه، التي أهمها:
أولًا: تعطيل "الإنذار المبكر"، الذي يشير إلى ضرورة امتلاك أجهزة الاستخبارات "الإسرائيليّة" قراءة مسبقة حول نوايا العدو وحدود قدراته، وهو أحد أهم مكونات مفهوم الأمن القومي "الإسرائيلي"؛ ففي هذه المعركة، فشل الاحتلال في التنبؤ بسلوك المقاومة إزاء العدوان على القدس المحتلة، رغم اتخاذ المقاومة قرار المشاركة العسكريّة قبل بدء المعركة بنحو (12) ساعةً، فضلًا عن إخفاقه في كشف حالة التأهب في أوساط المقاومة، في ظل الجهد الاستخباريّ المركّز على غزّة برًا وبحرًا وجوًا.
ثانيًا: بناء "بنك الأهداف"، إذ تمكنت استخبارات المقاومة عبر سنوات التهدئة مع الاحتلال من تحديد إحداثيات مواقع عسكريّة وأمنيّة ومراكز سياديّة استراتيجيّة "إسرائيليّة" على امتداد فلسطين المحتلة. عدا عن ذلك، نجحت استخبارات المقاومة من خلال "منظومة حديثة" في تحديد الأهداف العسكريّة خلال القتال. وتستند المقاومة في ذلك إلى أدوات استخباريّة، يمكن استنباط طبيعتها من توجيهات الاحتلال في المعركة، التي طلبت من المستوطنين تعطيل كاميرات المراقبة المنزلية وعدم التعاطي مع الاتصالات المشبوهة.
ثالثًا: إفشال خطة "المترو"، التي بموجبها استخدم الاحتلال في المعركة خديعة "العدوان البري" بالتزامن مع تكتيك "الحزام الناري"، بهدف قتل مئات المقاومين داخل الأنفاق؛ إذ بفضل استخبارات المقاومة، التي نجحت في تقدير الموقف، فطنت المقاومة إلى سلوك جيش الاحتلال الحقيقي لا يرقى إلى مستوى العدوان البري الشامل، وبالتالي أحجمت عن شحن الأنفاق بقوات النخبة، الأمر الذي شكل صفعةً استخباريّة وعسكريّة قويّة للاحتلال، خاصة بعد إقرار ضباط الاحتلال بعدم دقة المعلومات عن أنفاق المقاومة.
إجمالًا، تجدر الإشارة إلى أنّ البُعد الاستخباريّ في معركة "سيف القدس" كان متنوع الأوجه ومتعدد المستويات، غير أن ضرورات العمل ومقتضياته السِرّيّة تطلبت الاكتفاء بذكر بعض ملامحه. وفي هذا الإطار، يمكن الجزم بأن المقاومة تمنح سلاح الاستخبارات درجة اهتمام رفيعة، نظرًا لما لأدواته من فضلٍ على بناء "بنك الأهداف" واتخاذ القرار، وفق معطيات حقيقيّة ودقيقة، قادرة على تأمين مقدرات المقاومة والإثخان في جيش الاحتلال. وبالمناسبة، في الغالب سيزيد الاحتلال من إيلاء الأهمية لاستخبارات المقاومة، وقد يحاول من خلال أدوات غير مباشرة تحييد ضباط الاستخبارات وتعطيل مجهوداتهم، وهذا الأمر يتطلب من المقاومة الإعداد الجيد من ناحية الأدوات غير المباشرة والأهداف الاستخبارية النوعية.