تمثل معركة الوعي بعدًا مهمًّا من أبعاد المواجهة بين أي قوى بشرية متصارعة، لكونها تشكل إطارًا معرفيًّا لأفعال هذه المواجهة، خاصة الفعل العسكري، إذ يُعد الوعي بأهداف المواجهة وإدراك ضرورة التضحية في سبيلها عاملًا حاسمًا في تحقيق الانتصار. ووفق ذلك، تُعد معركة الوعي مكونًا أساسيًّا في مقاومة الفلسطينيين للاحتلال "الإسرائيلي"، لاعتبارات عدَّة، أهمها: اختلال توازن القوة بين الطرفين، الأمر الذي بسببه ركزت المقاومة على تنفيذ أفعال عسكريّة تأثيرها قويّ في وعي المستوطنين "الإسرائيليين" ومعنوياتهم.
بحلول عام 2022م، يناهز عمر الكيان "الإسرائيلي" في فلسطين الرابعة والسبعين عامًا، قضاها الاحتلال منذ عام 1948م بحثًا عن الاستقرار والأمان، خاصة العقد الأخير، الذي شهد تطورًا هائلًا في قوة المقاومة وقدرتها على المسّ بعمق الكيان الحيويّ والمواقع الإستراتيجية فيه، وهو ما تجسد بوضوح في معركة "سيف القدس". وقد كانت من نتائج إستراتيجية المقاومة في مراكمة القوة نشوء جبهة إسناد جديدة، تمثلت في "فلسطينيي 48"، التي يعدها المستوطنون -بحسب معهد الأمن القومي- من أكبر المهددات الوجودية على مستقبل "الدولة اليهودية".
وفي هذا الإطار، أحدثت الأفعال العسكرية والشعبية الفلسطينية تغيرات جوهرية في وعي المستوطنين، إذ تحولت مشاريع إقامة "الدولة اليهودية" على 27 ألف كم² من أرض فلسطين إلى مشاريع استيطانية غايتها الحفاظ على وجود يهودي في أماكن محددة فقط، كما أشار وزير جيش الاحتلال بيني غانتس إلى ذلك من خلال تأكيد رسالة متداولة بين المستوطنين مفادها "أن الكيان سينحسر بين منطقة الجديرة شمال القدس إلى الخضيرة وسط حيفا"، على خلفية نزوح مستوطني النقب والجليل إلى وسط الكيان، نتيجة الجهد الفلسطيني ضدهم، وما ترتب عليه من فقدان للأمان، إذ أظهرت أحدث استطلاع نشرته قناة 14 "الإسرائيلية" أن 79% من المستوطنين لا يشعرون بالأمان داخل الكيان.
بالعودة إلى معركة "سيف القدس"، فإن تأثيرها الهائل على مكونات المواجهة بين المقاومة والاحتلال، ولا سيّما مكون الوعي، قد ألقى بظلاله على قرار الاحتلال، إذ كان لمعادلة (تل أبيب مقابل برج سكني) أثر كبير في وقف تدمير الأبراج السكنية، عدا عن كون قصف تل أبيب بشكل متكرر قد أعاد الأمل لدى الفلسطينيين وكشف حقيقة هشاشة الكيان وضعفه، وهو ما شكّل لاحقًا محفزًا لاستئناف العمليات الفدائية ومثّل إلهامًا لخلايا المقاومة في الضفة، تحديدًا جنين. ليس هذا وحسب، وإنما انتقل كي الوعي من عقلية حكومة الاحتلال إلى العقل الجمعي "الإسرائيلي"، الذي عد بعد المعركة أن الهدوء النسبي في غزة انتصار كبير، وهو أمر غاية في الأهمية، إذ إن مسألة الانتصار والهزيمة في العقلية "الإسرائيلية" كانت قائمة سابقًا على عاملي الحسم والردع، لا الحصول على الاحتواء والهدوء.
كذلك، بالإمكان قراءة منع الاحتلال المستوطنين من رفع علم الكيان في المسجد الأقصى وتقليص أعدادهم خلال اقتحامات رمضان 2022م، على أنه خضوع للمقاومة، ولا سيّما أن هذه الإجراءات كانت بعد تهديد جاد من غزة. وقد فاقم ارتباك حكومة الاحتلال إزاء تهديد المقاومة من حالة الخوف الجمعي "الإسرائيلي" وفقدان الشعور بالأمان، حتى في أكثر الأماكن حساسية ورمزية بالنسبة للاحتلال، فمثلًا أُلحق في وعي المستوطنين ضرر بليغ عقب إغراق الشبكات الاجتماعية بمشهد إقدام مستوطِنتين على إزالة أعلام الكيان عن مركبتهما في أثناء المرور بجوار مسيرة فلسطينية منددة باغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة في القدس المحتلة.
وقد انعكس كي الوعي "الإسرائيلي" سلبًا على معيار الثقة بمؤسسات الكيان، إذ يشير استطلاع نشرته حركة "الأمنيين الإسرائيلية" إلى أن نسبة 66% من المستوطنين لا تثق بشرطة الاحتلال، وأن انخفاضًا غير مسبوق ظهر على مؤشر ثقة المستوطنين بجيش الاحتلال. يمكن تفسير هذه النتائج وفق اعتبارات عدّة، غير أن الأهم في كل ذلك تراجع ثقة المستوطنين، الذي مرده نابع من عجز الاحتلال عن حماية مشروع "الدولة اليهودية" وانحسار أطماعه في فلسطين، مقابل تعاظم قدرة المقاومة وزيادة الفرص أمامها على ردع الاحتلال.
ختامًا، لعل الوزير "غانتس" كان أكثر القادة وضوحًا مع المستوطنين، إذ عقّب على مخاوف زوال "الدولة اليهودية"، بالقول: "لا أمل لكم ضد إرادة الله". هذا التعقيب من أعلى مستوى عسكري "إسرائيلي" لم يكن عبثيًّا، وإنما كان تسليمًا بواقع جديد وإدراكًا لحقائق منطقية بشأن إمكانية صمود الكيان أو حتى احتمالات بقائه أصلًا، وهذا أكبر دليل على نجاح المقاومة في كي الوعي على مستوى قادة الكيان، على حين تمثل اكتواء الوعي الجمعي "الإسرائيلي" في نتائج استطلاع نشره موقع "إسرائيل اليوم"، وأشار فيه إلى أن 69% من المستوطنين يعتقدون بأن الكيان سيزول، حال استمرار الوضع "الإسرائيلي" الراهن كما هو، ولم يتغير.